هل على المشتغلين بالميادين الفكرية والمعرفية الحديثة، والذين يتبنون أنماط التجديد والحداثة والعصرنة، أن يظلوا سابحين في أمواج نسف الثوابت المتعددة لتأكيد عصرنتهم؟.
لم يعد هذا السؤال يراود مخالفي هذا التوجه الفكري فقط، بل أنه صار يؤرق ذهنية متبني هذا الاتجاه أنفسهم، لدرجة التساؤل عن جدوى الأنماط الأحادية في تفسير ظواهر الحداثة والهوية، والتي يمارسها " التجديديون " وفق معطيات تلتصق بقبلية مجددة، وكأنهم عصبة تمثل معادلاً يقف بإزاء جماعات أخرى غير متفقة معهم، وكل من يحاول الخوض في هذا النمط من التفكير، ورصد سلبياته، وتحليل أسبابها وتشخيصها؛ فإنه خارج على " المِلّة الحداثية ".
ففي الوقت الذي تثور ثائرة هؤلاء ضد المقدسات التي تتيح الاطمئنان الروحي للنفس البشرية، ويدعون إلى القفز عليها واعتبارها من الخرافات التي يجب عدم الأخذ بها؛ نجدهم يعمدون إلى تقديس منطلقاتهم المادية التي أنتجت كثيراً من المُسَلَّمات الداعية إلى هدم الخصوصيات؛ فكان التبعثر والتصدع، ثم الضمور؛ نتيجة طبيعية وحتمية لكل هذه التوجهات القابعة في زنزانة انفصام معتمة.
كائنات إيديولوجية
هذا النمط من المفكرين، وإن دعا إلى التحرر من النزعات المؤدلجة، لم يشعر - على حسن الظن - أنه يؤسس لإيديولوجيا جديدة بمقاسات يعتبرها مضيئة، قبل أن يصدمه الانطفاء المنطقي والاحباط ؛ بسبب نظرية هدم الثابت، في مقابل نظرة الجمود عليه، ضاربين بعرض الجدار التحولات الحضارية، غاضين الطرف عن سلسلة المآزق المتلاحقة التي تكاد تعصف بالوجود البشري.
قد نستذكر هنا حادثة الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة لشخصية الرسول الكريم (ص)، وكيف تناولها أبناء القبيلة الحداثية العربية، فقد سلّطوا أقلامهم اللاذعة على موجة الغضب التي اجتاحت المسلمين، دون أن يتطرقوا لأصل الموضوع الذي أساء لرمز ديني عظيم ينبغي - بأضعف الحداثة - احترام قيمته الروحية والأخلاقية، واحترام مشاعر من يمثل لهم ثيمة ايمانية وهم شريحة إنسانية واسعة، فيكتب أحدهم واصفاً المقدسات بأنها مصنع للأزمات، أو أن مظاهرات المسلمين في لبنان مثلاً استفزت المسيحيين.
نحن هنا لانبرر لبعض الأعمال التي لم تتناسب مع منطق الاحتجاج السلمي والحضاري، بل نريد تأكيد حالة الانفصام التي ركد عليها حداثويو القبلية الحداثية المُسوِّقة لبضاعة التعطيل المفاهيمي.
هذه البضاعة الكاسدة، ماكان لها أن تلقى رواجاً لو تمت معالجة اشكالية اتخاذ المصطلح أو المفهوم أدلجة يعيش ويتنفس في كنفها، الأمر الذي يستدعي التفكير الجدي في إنتاج بنية فكرية تتيح ثقافة تقف بوجه تيارات الأدلجة الحداثوية التي ترتكز على التنظير دون سلوك حقيقي أو ممارسة فعلية، وهي المشكلة التي اعترف بها منظرو ومفكرو هذا الاتجاه.
ويعتقد الدكتور عبد الإله بلقزيز، أن الخطاب الحداثي تعرض لنكستين خلال القرن الماضي، أرجع الأولى إلى عشريناته، بينما وضع العقدين الخمسيني والستيني زمناً للنكسة الثانية حيث انهيار المشروع القومي العربي.
وأنتجت النكستان ظواهر وفق معطيات متعددة، إذ تراجعت فكرة النهضة التي بدأت في القرن التاسع عشر، لتحل (الأصالة) بديلاً لها بآليات (الخلافة) على حساب الدولة الوطنية والحديثة، مستعيدةً - بحسب الدكتور بلقزيز - السياسة الشرعية لدى الماوردي وابن تيمية والقرافي.. الخ.
ثم توالت الظواهر التي شهدت المد والجزر في صراع القديم والجديد.
المساحة الأكبر في خريطة هذا الصراع كانت في فترة الستينات، وقد غلب عليها الطابع الأدبي تقريباً مع ظلال للسياسة والاقتصاد، قبل أن تصعق نكسة حزيران 1967 الجميع، وتجعلهم في صدمة هائلة ترنح لها القوميون والماركسيون والليبراليون، وتعززت بٱنهيار نظام الشاه في ايران عام 1979، وماتلا تلك المرحلة من أحداث وحروب وانقلاب مفاهيمي لحد تلاشي العناوين وتكسر المبادئ، حتى وصولنا إلى راهننا الأكثر التباساً وصراعاً، مع دخول العالم الرقمي بقوة على الخط.
إشكالية الفهم
تبدو إشكالية فهم الحداثة عند الحداثويين مشابهة إلى حد ما لإشكالية فهم الديمقراطية عند الديمقراطيين؛ لذلك تبدو المقاربة بين الإشكاليتين واردة وموضوعية. فالديمقراطيون اجتهدوا في الحديث عن الديمقراطية عبر الندوات المتلفزة والإذاعية، والكتابة عنها في الصحف والمواقع الالكترونية، وفي ذات الوقت يمارسون استبداداً فكرياً في التزمت في طرحه الرأي، ومصادرة المختلف حد السخرية منه، مايعكس صراعاً حاداً بين البنية الفكرية والسلوكية، فيكون صاحب الشأن " الديمقراطي " بحاجة إلى إعادة تأهيل، قبل أن يتم اعتباره أنموذجاً للتفلت من رقابة مفترضة يدعيها لتغطية الرماد المنثور على سلوكه المتعارض مع قيمه.
وقد كشفت أحداث مايعرف بالربيع العربي هذا الصراع الكبير، فلو أخذنا مصر كثيمة مميزة؛ كونها تفردت بإزاحة رئيسين في فترة قياسية وتداعيات متداخلة؛ لتبين لنا حجم الإشكال المفاهيمي الكبير، والذي تأصلت فيه الفوضى، ماأدى إلى تسويق المُعَطّل الفكري والثقافي للعقلية العربية، سواء على مستوى الديمقراطية وتبنيها كنظام، أو على صعيد الحداثة كسلوك وتوجه. فبعد أن نزلت الجماهير للمناداة بالخلاص من التسلط في مصر، لوحظت بعض الأصوات الثقافية والفنية ترفض الخيار الشعبي بشكل معلن، ثم عادت وغيرت رأيها بعد أن أصبح التغيير واقعاً وحقيقة، ثم استهوت لعبة التماهي السابقة، ولكن مع واقع يتناقض بوضوح مع ماتتبناه من قيم التجديد والتحضر والانفتاح، حيث فُتحت قنوات للرأي العام - ماتزال موجودة لحد الآن - مبشرة بالفتح (الأخواني) الذي سرعان ماتحول إلى انغلاق مطبق؛ فتمت إزاحته سريعاً، وهكذا..حتى في التجربة الأخيرة.
اضف تعليق