ابتُلي الحُسين السِّبط (ع) بجُبنِ كُلِّ هذهِ الشَّرائحِ المذكورةِ أَعلاهُ لدرجةٍ أَنَّ جُبنهُم أَصابهُم بالنِّفاقِ والنِّفاقُ أَصابهُم بمرضِ ازدواجِ الشخصيَّة التي أَنتجت مَوقفَينِ مُتناقِضَينِ في نفسِ الوقتِ، موقِفٌ يستجيبُ لنداءِ الفطرةِ وآخرَ نقيضهُ يستجيبُ لمصالحِ الأَنا وبالتَّالي مَوقف التَّخاذُلِ الذي مكَّنَ سيف الظُّلمِ من رقابهِم. وفي مُواجهةِ هذا الواقعِ...
إِنَّ القوَّةَ مع الحكمةِ مصدرُ إِلهامٍ للأُممِ والشُّعوبِ والمُجتمعاتِ وبدُونِها تهوُّرٌ وتوريطٌ! شريطةَ أَن لا تتحوَّل [الحِكمة] هُنا إِلى أَداةٍ للتستُّرِ على الجُبنِ والضَّعفِ والهزيمةِ والتردُّدِ والخِذلانِ (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ ۖ إِن يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا) أَو كما كان يتستَّر أَصحابُ أَمير المُومنِينَ (ع) بالحرِّ والبردِ للفرارِ من الزَّحفِ (فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ الْحَرِّ قُلْتُمْ؛ هَذِه حَمَارَّةُ الْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا الْحَرُّ وإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ قُلْتُمْ؛ هَذِه صَبَارَّةُ الْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا الْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ الْحَرِّ والْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ واللَّه مِنَ السَّيْفِ أَفَرُّ!).
إِنَّها [الشَّجاعةُ الحكيمةُ] واحدةٌ من صفاتِ رجالِ المُجتمعِ الذين أَوصى بهم أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) الأَشتر النَّخعي في عهدهِ لمَّا ولَّاهُ مصر ليلتصقَ بهِم ولا يبتعدَ عنهُم لأَهميَّة هذا النَّوع من الرِّجال.
كتبَ (ع) في عهدهِ يقولُ (ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ والأَحْسَابِ وأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ والسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ والشَّجَاعَةِ والسَّخَاءِ والسَّمَاحَةِ فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ، ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا ولَا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِه ولَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِه وإِنْ قَلَّ فَإِنَّه دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ ولَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالًا عَلَى جَسِيمِهَا فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِه ولِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْه).
إِنَّ الشُّجاع الحكيم يتميَّز بالرَّأي الحقيقي المُعتدِل والمُنصِف، فلا يُهوِّل وهو أُسلوب الجُبناء عندَ التَّقييمِ ولا يُحقِّر وهوَ أُسلوب المتهوِّرينَ عندَ التَّقييمِ.
يقُولُ (ع) في عهدهِ الآنفِ الذِّكرِ (ولَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ ويَعِدُكَ الْفَقْرَ ولَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الأُمُورِ ولَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَه بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ والْجُبْنَ والْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّه).
والشَّجاعةُ المقصودةُ ليست هي التي تتجلَّى بالعَضلاتِ أَو تظهر بالضَّربِ أَو نتابِع أَخبارها بعنتريَّاتِ الرُّجولةِ والذُّكورةِ، أَبداً، وإِنَّما في؛
- الرَّأي
- الرُّؤية
- المَوقف والقَرار
- قَبول التحدِّيات
- مُواجهة الإِغراءات وعدَم الإِستسلام للتَّهديدات
- نُصرة الحَق وعدَم مُجاملةِ الباطِل
- القَبول بالآخر والإِعتراف بالفَضيلةِ للآخرينَ حتَّى إِذا كانَ ذلكَ على حسابِ السُّمعةِ الشَّخصيَّةِ.
- القراءةِ والكتابةِ والتَّفكيرِ خارجِ الصُّندوق وفي اللَّامُفكَّر فيهِ وفي المساحاتِ المُحرَّمةِ.
- في السُّؤالِ وفي الجوابِ!.
وكُلُّ هذا وأَكثر تجلَّى في عاشوراء، منذُ أَن رفضَ الحُسين السِّبط (ع) البيعةَ للطَّاغيةِ يزيد وحتَّى استشهادهِ في العاشرِ من المُحرَّم الحرام عام ٦١ للهجرةِ في كربلاء.
والمُلفت للنَّظر الذي يستحِق الإِنتباه والإِهتمام أَنَّ هذهِ الشَّجاعة لم يتميَّز بها الحُسين السِّبط (ع) فقط وإِنَّما تجلَّت في كُلِّ واحدٍ من أَهلِ بيتهِ وأَنصارهِ، من الرِّجالِ والنِّساءِ والأَطفالِ، فلقد كانَ (ع) قد أَفاضَ من شجاعتهِ على الآخرين من أَهلِ بيتهِ وأَصحابهِ الذين وصفهُم للعقيلةِ زينَب بنت عليٍّ (ع) (ولقَد بلوْتهُم فلَم أَجد فيهِم إِلَّا الأَشوَس الأَقعَس يستأنسُونَ بالمنيَّةِ دونِي استئناسَ الطِّفلِ بمحالِبِ أُمِّهِ).
ولا أُحدِّثكم هُنا عن شجاعةِ أَهل البيتِ (ع) في كربلاء.
إِنَّ الشَّجاعةَ بمعناها الأَوسع الذي ذكرناهُ للتوِّ هي المِقياس الذي نقيسُ فيهِ صدقَ الذينَ يدَّعونَ انتماءهُم لعاشُوراء من كذبهِم، فإِذا تميَّزت سلوكيَّاتهِم بالشَّجاعةِ فهُم حُسينيُّونَ بحقٍّ وإِلَّا فهُم أَمويُّونَ، فعاشُوراء سلوكٌ وقِيمٌ وصِفاتٌ وليسَت شِعارات ولافِتات ومانشيتات لا تُعبِّر عن واقعٍ ملموسٍ.
نحنُ نحتاجُ إِلى شجاعةِ عاشُوراء على كُلِّ المُستويات؛
- في فقيهٍ شُجاعٍ يصحرُ برايهِ عندَما تشيعُ الفِتنَ فالجبانُ يتخاذلُ عندما تعمُّ الشُّبهةَ في المُجتمعِ.
- في سياسي شُجاع فالجبانُ لا يحمي حقُوق المِجتمع ويفرِّط بها.
- في خطيبٍ شُجاعٍ فالجبانُ يُجامِلُ فلا يدلُّ المُجتمع على الصِّراط المُستقيم.
- في أَديبٍ وفنَّانٍ شُجاعٍ فالجبانُ يكتب خارج الزَّمن ليهرَب من المسؤُوليَّة.
- في مُفكِّرٍ ومُحلِّلٍ وإِعلاميٍّ وخبيرٍ شُجاعٍ فالجبانُ يلحسُ بقصاعِ الفاسدينَ ولا يفضح الفاشلِينَ ويُبرِّر للواقعِ المُزري والمُخزي.
- في مُجتمعٍ شُجاعٍ فالجبانُ لا يقدِم ويسكُت على الظُّلمِ وهضمِ الحقوقِ.
لقد ابتُلي الحُسين السِّبط (ع) بجُبنِ كُلِّ هذهِ الشَّرائحِ المذكورةِ أَعلاهُ لدرجةٍ أَنَّ جُبنهُم أَصابهُم بالنِّفاقِ والنِّفاقُ أَصابهُم بمرضِ ازدواجِ الشخصيَّة التي أَنتجت مَوقفَينِ مُتناقِضَينِ في نفسِ الوقتِ، موقِفٌ يستجيبُ لنداءِ الفطرةِ وآخرَ نقيضهُ يستجيبُ لمصالحِ الأَنا [الأَنانيَّة] وبالتَّالي مَوقف التَّخاذُلِ الذي مكَّنَ سيف الظُّلمِ من رقابهِم.
وفي مُواجهةِ هذا الواقعِ المُرِّ تجلَّت شجاعةُ رِجالِ عاشوراء فيقفُ الحُسين السِّبطِ (ع) خطيباً قائلاً (أَلا وأَنَّ الدَّعيَ بن الدَّعيِّ قد ركَزَ بينَ اثنتَينِ بينَ السلَّةِ والذلَّةِ، وهَيهات منَّا الذلَّة، يأبى اللهُ لنا ذلكَ ورسولهُ والمُؤمنونَ، وحجُورٌ طابَت وطهُرت، وأُنوفٌ حميَّةٌ، ونفُوسٌ أَبيَّةٌ من أَن نُؤثر طاعةَ اللِّئامِ على مَصارعِ الكِرامِ).
وشِعارُ الأَحرارِ قَولُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) لأَصحابهِ (فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ والْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ).
اضف تعليق