النقد هنا يجب أن يكون أعم واشمل، بحيث ينفذ إلى الأفكار وما ورائها، فبدلاً من نقد أجزاء من الفكرة؛ يمكن لنا أن نتجرأ على نقد أصل الفكرة، فالشارع الخلفي ما كان ليكون أمراً واقعاً من دون أحداث وسلوكيات ومسببات أدت بالمجتمعات إلى الوصول إلى حافة الانهيار الأخلاقي...
حتى لا تدخل عزيزي القارئ في متاهات تأويل العنوان، وتفكيك دلالة اللون فيه؛ سأصارحك بأن الأزرق هنا: هو الأزرق الأشهر حالياً على صعيد التواصل في كل أمكنة العالم وهو موقع (فيسبوك) التواصلي. والآن نذهب إلى الكلمة التي سبقت اللون ونقصد بها كلمة (النقد) المسبوقة أصلاً بضمير الجمع (نحن). هذا يعني أننا كمجموع نمارس النقد عبر هذه المساحة الاتصالية الزرقاء، وهذا طبعاً حق مشروع، وكل ينتقد حسب مستواه الفكري والمعرفي، أو حسب مزاجه الاجتماعي.
الأزرق يمارس أو يُصدِّر النقد وغيره من عمليات إبداء الرأي بشكل يومي؛ لكنه في شهر شديد الخصوصية الثقافية والدينية كشهر رمضان المبارك، والذي تنتعش فيه آليات التواصل سواء كانت الكترونية أو واقعية. والتواصل في حالتيه أمر ممتاز وجيد طالما كان تواصلاً بناءً يضيف على المستويين المعرفي والأخلاقي، فما الذي يا ترى أضافه النقد الأزرق؟
ولندخل بشكل أدق إلى المعنيين أكثر بحقل النقد الذي يرصد فكرياً وإبداعياً، وهؤلاء بالطبع هم نخبة المجتمع من الكتّاب والمبدعين والفنانين. وكما هو معروف فإن الأعمال الفنية والدرامية تنتعش كثيراً في هذا الشهر، مثلما تنتعش الأصوات الناقدة لها.
النقد حالة صحية ولا خلاف على ذلك طبعاً، فهو يسعى إلى تقويم سلبيات الأعمال التي تُطرح. ولكن هل يكفي الرصد النقدي بأطره الفنية حصراً؟ نحن إزاء أعمال تسلط الضوء على مفاصل مهمة من حياتنا الواقعية، ويغلب عليها صراع الطبقات المجتمعية، وتباين ثقافات المتصارعين.
النقد المحصور بجانبه التقني والابداعي لا يكفي.
يكتب شاعرٌ معروف ناقداً مسلسلاً يُعرض على إحدى الفضائيات قائلاً: "أخي المتذوق، عليك مشاهدة حلقة واحدة من مسلسل (مقامات العشق) البديعة من جهة؛ لكي تؤكد قرفك من الدراما العراقية من الجهة الأخرى. ستقولُ في نفسك: هل نحن بحاجة غلى هذا الذوق، وهذا العلم، وهذا الفن، وهذا الأدب، وهذه الإشارات الفلسفية والصوفية والفقهية والشعرية والتاريخية والأخلاقية والجمالية، فضلاً عن روعة التصوير، وروعة الموسيقى، وروعة اللغة، والثياب والشخصيات، أم اننا بحاجة إلى سوء ألفاظ مسلسل (الفندق) وعرض الشارع الخلفي للقيم العراقية بكامل الجرأة والوقاحة على الناس، مع مجموعة من الممثلين العاديين الخالي حوارهم من أي قيمة أو نفع أو أصالة"1
النقد في هذا النص النقدي يعكس مزاجاً شخصياً للناقد وهو حر في ذوقه وانحيازه إلى الأعمال التي تنحاز إلى الفلسفة والتصوف، لكنه لا يعني بالضرورة انعكاساً لأمزجة واذواق الآخرين لدرجة إلزام الآخر بمتابعة ما يتذوقه الناقد كما في عبارته: (عليك مشاهدة حلقة واحدة).
أما على صعيد روعة اللغة، فإنه ــ الناقد ــ لم يضع أمام العمل الذي طالب بل ألزم الآخر بمشاهدته عملاً يُعنى باللغة العربية الفصحى؛ حتى تتم مقارنة الاستخدام اللغوي في المسلسلين، وشعرية اللغة، وكل ما يتصل بجمالياتها؛ لأنه اختار مسلسلاً عراقياً حواراته باللهجة الدارجة وليست باللغة العربية.
أما حديثه عن (الشارع الخلفي للقيم العراقية) فهو حديث مهم، لكنه اكتفى بالاعتراض عليه من وجهة نظر مجتمعية رغم انه لم ينكر واقعيته حين وصفه بالشارع الخلفي للقيم. وبما انه تعرض لمفردة بالغة الحساسية وهي (القيم) كان من الأفضل أن يعرض ــ من وجهة نظره طبعاً ــ مسببات انحدار القيم وتقهقرها إلى الشارع الخلفي، وأن لا يكتفي بنقد حوارات المشاهد التمثيلية التي رآها ــ وهو محق ــ خالية من النفع والأصالة.
النقد هنا يجب أن يكون أعم واشمل، بحيث ينفذ إلى الأفكار وما ورائها، فبدلاً من نقد أجزاء من الفكرة؛ يمكن لنا أن نتجرأ على نقد أصل الفكرة، فالشارع الخلفي ما كان ليكون أمراً واقعاً من دون أحداث وسلوكيات ومسببات أدت بالمجتمعات إلى الوصول إلى حافة الانهيار الأخلاقي، كاستيراد مفاهيم أخرى من مجتمعات تختلف عنا ثقافياً ومعرفياً، أو رصد حالة الانفلات من قيمة التدين ــ طالما نحن في شهر له صفة دينية ــالتي انتشرت، وصارت سبة على من يتمسك بها. وهذا هو الدور الذي ينبغي أن يلعبه الناقد النخبوي الذي يهتم بشؤون مجتمعه واخلاقياته.
وبغير العموميات النقدية الشاملة؛ سيظل الناقد المثقف متفرجاً بشكل سلبي، مفتقداً لميزة الرصد النقدي المراقِب والدقيق، وحينها لن يستطيع أن يكون جزءاً من منظومة الإصلاح الأخلاقية، ولن يقدم في آرائه سوى المرارة والامتعاض والشعور باليأس والاحباط والملل.
اضف تعليق