هو سلطان المؤلفين بلا منازع، ورائد الحركة التجديدية في الفكر الإسلامي من حيث الانطلاق من خصوصية التعاليم الإسلامية لإرساء مشروعه الفكري التجديدي، وليس الاتكاء على نظريات الغرب أو مقولات علمائهم كما فعل غيره، فهو بما لا يقبل الشك مجدد الفكر المنطلق من الخصوصية لا من التقليد...
دأبت الأمم والشعوب المتحضرة على الاحتفاء بذكرى مبدعيها وعظمائها، من المفكرين والعلماء والأدباء من الذين قدموا للإنسانية عطاءً، وأسهموا في نشر ثقافة السلام والتعايش بين مكونات المجتمع الإنساني.
ومثلنا مثل بقية الأمم والشعوب نحتفي برموز الفكر والعلم والأدب، ونستذكرهم في ذكرى رحيلهم، وهذا الاستذكار يمثل مرارة وغصة كبيرتين، وكأن الأقدار شاءت لنا أن نتعرف على القيمة الفكرية والعلمية لمبدعينا بعد أن يرحلوا عن هذه الدنيا، وبعد أن نرى على الواقع الأحداث التي تحدثوا عنها، وحذروا من وقوعها، ووضعوا الحلول الكفيلة بقطع الطريق عن حدوثها، ومن ثم تشرذم الواقع البشري في حال وقعت.
ومرارة الاحتفاء الأكبر؛ تكمن في أن أكثر مناسبات الاحتفاء والاستذكار تسير على نحو تقليدي، بحيث تكتب المقالات، وتلقى القصائد المشيدة بدور هذا المفكر أو العالم، ومن ثم ينصرف المحتفون إلى شؤونهم فتكون صورة الاحتفاء عادية خالية من أية فائدة تُرجى.
أستذكر هذه المرارات في ذكرى رحيل أهم مجددي الفكر الإسلامي المعاصر الإمام الراحل السيد (محمد الحسيني الشيرازي) إذ ان مرارة الاحتفاء بذكراه تكون مضاعفة لنا نحن المسلمين؛ لأننا لم نعرف قيمة هذا المجدد الكبير إلا بعد أن فقدناه، وفقدنا بفقده ركيزة علمية وفكرية مثلت أيقونة من أيقونات السلم والتسامح والمحبة. هو سلطان المؤلفين بلا منازع، ورائد الحركة التجديدية في الفكر الإسلامي من حيث الانطلاق من خصوصية التعاليم الإسلامية لإرساء مشروعه الفكري التجديدي، وليس الاتكاء على نظريات الغرب أو مقولات علمائهم كما فعل غيره، فهو بما لا يقبل الشك مجدد الفكر المنطلق من الخصوصية لا من التقليد.
ليس جديداً إذا قلنا إن الإمام الشيرازي المجدد أفنى حياته في تصدير الأفكار التي تخدم البشرية، كيف لا ونبيه ونبينا العظيم (ص) يقول : "خير الناس من نفع الناس" فقدم لنا وللعالم أجمع من خلال مؤلفاته زاداً علمياً وثقافياً فهل أخذنا به وانتفعنا منه؟
الجواب على هذا السؤال المربك يتعلق بمرارة الاحتفاء بذكراه العطرة؛ لأن العالمين العربي والإسلامي للأسف الشديد أشاحا بوجهيهما عن قيمة الفكر السلمي الذي طرحه الإمام الشيرازي.
وهذا ما يتجلى اليوم من خلال تهديد الإنسانية بشبح الحرب بين الأقطاب المتصارعة على زعامة العالم، تاركة الوجود البشري حطباً لهذه الصراعات، بفعل هيمنة منطق التوحش الاستعماري، وهاجس التسلط على مقدرات الإنسانية عبر افتعال الأزمات والمشاكل بين الدول؛ تطل من نافذة المصالح الإيديولوجية صورة أخرى لحرب ستحرق إذا ما نشبت لا سمح الله الأخضر واليابس محدثةً الدمار والتخريب. لازال جنون العظمة، والتطبيق الحرفي لمقولة (أنا ربكم الأعلى) أنموذجين فاعلين يتحكمان بمصير الوجود البشري القابع في خدر فكري مستسلماً لعناصر العولمة المتوحشة، بينما تجتهد قوى الشر في تدعيم مصالحها بهدوء مستثمرة انشغال العالم بتعطيل عقله واستبداله بآليات الاتصال الجاهز، والذي يمكن أن يتصل بكل شيء إلا بالبحث الجاد والرصين عن مستقبل إنساني يرفل بالسلم مطمئناً ومبتعداً عن العنف.
كان الإمام الشيرازي (رحمه الله) يحث على التفكير بمسببات اندلاع الحروب، وقطع الطريق على كل ما من شأنه أن يجعلها تتفاعل وتتسبب بالتالي في تدمير الوجود البشري.
أيننا اليوم من نظريته المتفردة وهي اللاعنف؟ والتي وكلما كتبت عنها الدراسات فإنها تبقى طرية وفاعلة مع مستجدات التوحش العالمي اليوم. وقد سعى الإمام المجدد من خلال أطروحته هذه لتضييق الهوة بين بين الحلم بمستقبل إنساني يليق بكرامة الإنسان وقيمته، وبين السعي الجاد لتحقيق هذا الحلم.
وأهم مفصل عملي في فكرة اللاعنف هو إنشاء مؤسسات عالمية تمنع انتاج الأسلحة التي تسعى لتدمير البشرية وإبادتها من أجل تحقيق المصالح الضيقة للدول الكبرى والتي لاهم لها سوى تعزيز نفوذها وهيمنتها على العالم وإذكاء الفتن وتعزيز كل الجهود التي تعمل على إبقاء الإنسانية ساحة صراع وتوتر وحروب دائمة تنتعش من خلالها عمليات انتاج وبيع هذه الأسلحة الفتاكة.
إن التأكيد على عالمية المؤسسات؛ جاء بهدف تضييق ممكنات الحرب والدمار، وهي فكرة جديرة بالبحث والتأمل؛ كونها انطلقت من اتجاهات الفكر الإسلامي التي ينطلق الإمام الشيرازي من خصوصيتها المؤكدة دائماً على إحلال السلام في ربوع العالم وعدم اللجوء إلى العنف والعنف المضاد، فإنشاء مثل هذه المنظمات والمؤسسات من شأنه أن ينعش الأمل الإنساني بالسلم العالمي. ولا بأس أن تعاضد هذه الهيئات والمنظمات مؤسسات أخرى تتبنى اللاعنف كهدف رئيس لها فتتوحد جهود المؤسستين من أجل بلوغ الهدف الأسمى في السلام و الحفاظ على البشرية من الإبادة.
ومع كل هذه الاحتفاءات والاستذكارات؛ نحتاج إلى القراءة العميقة لأفكار الإمام الراحل لأن فيها من الإحاطة بمشكلات الإنسانية الكثير الكثير سياسياً واقتصادياً وفكرياً، وأن يُصار إلى عقد مؤتمرات كبيرة لدراسة منجزه الضخم كأن يصار إلى استحداث (أسبوع الإمام الشيرازي للفكر) تتم فيه استضافة الكفاءات العلمية والأكاديمية لإلقاء بحوث ودراسات في موضوعات مختلفة تطرق لها الإمام المجدد وتقديمها بما يتناسب مع الوضع الحالي. وكذلك يمكن استحداث مسابقة كبيرة للتأليف لفئة الشباب تشجيعاً لهم للمساهمة في بناء مجتمعاتهم وتنميتها، ولنجعلهم مستفيدين من الكنز المعرفي والفكري للإمام الشيرازي، ونضمن عدم اندثاره، أو سجنه في استذكارات محدودة.
اضف تعليق