هل يملك مجلس النواب الخيار التشريعي بمخالفة ثوابت احكام الإسلام

(العفو عن القاتل انموذجاً).. قراءة في ضوء قرار المحكمة الاتحادية العليا

بموجب قرار الحكم أعلاه فان المحكمة الاتحادية العليا تكون قد اقرت نصاً خالف ثابت من ثوابت احكام الإسلام، واضفت عليه الشرعية الدستورية، وايدت اتجاه مجلس النواب في هذه المخالفة وقد يبنى عليها مستقبلا في قوانين ونصوص مستقبلية، وكنا نأمل من المحكمة الموقرة ان تناقش مدى مخالفته النص لنص المادة...

أولاً: قانون تعديل قانون العفو: 

أصدر مجلس النواب قانون تعديل قانون العفو العام رقم (2) لسنة 2025 وفيه احكام تتعلق بشمول بعض المدانين بجرائم متعددة، ومنها العفو عن المدان بجرائم القتل، بناء على وقوع الفصل العشائري، وجاء في نص المادة (3/اولاً/ب) الاتي (يعد الفصل العشائري المثبت بموجب وثيقة موقعه من شيوخ عشائر وبتأييد من مديرية شؤون العشائر في المحافظة، بمثابة وثيقة تنازل المشتكي أو ذوي المجنى عليه).

وفي هذا النص شبهة مخالفة ثوابت احكام الإسلام وهي من مبادئ دستور العراق لعام 2005 والتي تمنع اصدار أي تشريع يخالف تلك الثوابت وعلى وفق احكام المادة (2/أولا/أ) من الدستور التي جاء فيها (لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الإسلام).

وبموجب هذا النص الدستوري أصبح مجلس النواب لا يملك أي خيار تشريعي يمكنه من تشريع قانون يخالف تلك الثوابت، ومن ثم فان أي تشريع يصدر وفيه مخالفة لتلك الثوابت يكون عرضة للطعن بعدم دستوريته.

وقبل الخوض في تفاصيل هذه القراءة لابد من الوقوف على معنى ثوابت احكام الإسلام حتى تكون الصورة واضحة تجاه توفر المخالفة في النص من عدمه، حيث يرى فقه الشريعة والمختصون فيها ان ثوابت احكام الإسلام تتمثل في سبيلين الأول هو الاحكام القطعية التي جاءت بها نصوص شرعية قطعية الثبوت والدلالة، بمعنى أن ورودها في القرآن أو السنة المتواترة، وأن معناها واضح لا يحتمل التأويل. والسبيل الثاني هو اجماع المسلمين، بمعنى ان لا يوجد رأي مخالف ولو لفقيه واحد فاذا وجد كسر نصاب الاجماع.

وفي موضوع البحث، فان الاجماع منطبق تماماً على ان من له حق العفو عن القاتل هو ولي الدم وتعريف ولي الدم بالأجماع هو وارث المقتول (المجنى عليه) حصراً، والوريث هو الذي يرتبط بالمقتول (المورث) برابطة النسب بمعنى القرابة، والورثة قد اقرهم الشرع والقانون، وهم الابوين والابناء والاخوة والاخوات والزوجة، وهؤلاء لهم سهام في تركة المتوفى، وبذلك هؤلاء هم أولياء الدم فقط، وهذا محل اجماع المسلمين، حيث وجدت قاعدة فقهية تؤطر هذا المبدأ وهي (عفَ كل ذي سهمٍ جائز) وسوف لن اخوض في المصادر الفقهية فإنها متوفرة لكل مهتم وفيها تفصيل يعزز ما تم ذكره.

لذلك فان من له حق العفو عن القاتل وفي جرائم القتل العمد، هم ورثة المجنى عليه (المقتول) حصراً،

ثانياً: موقف مجلس النواب:

وعند امعان النظر بموقف مجلس النواب تجاه هذا النص نلاحظ انه تعدى على الاجماع في الفقه الذي يعد من ثوابت احكام الإسلام، وفيه مخالفة لمبدأ دستوري ورد في المادة (2/أولا/أ) من الدستور التي جاء فيها (لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الإسلام)، عندما اعتبر الفصل العشائري بمثابة تنازل ذوي المجنى عليه وعلى وفق ما ورد في نص المادة (3/اولاً/ب) الاتي (يعد الفصل العشائري المثبت بموجب وثيقة موقعه من شيوخ عشائر وبتأييد من مديرية شؤون العشائر في المحافظة ، بمثابة وثيقة تنازل المشتكي أو ذوي المجنى عليه). 

وبذلك فقد خرق مجلس النواب هذا المبدأ الدستوري، لان الفصل العشائري هو عرف مجتمعي تعارف عليه الناس على ان يقوم رؤساء القبائل او العشائر على فرض دية على ذوي القاتل لمصلحة ذوي المقتول، من اجل إطفاء الفتنة العشائرية وقطع دابر الانتقام بين أبناء القبائل، وفي قرار محكمة التمييز العدد696/مدنية منقول/2008 في 26/8/2008 قد عرف الفصل العشائري بانه (عبارة عن ديَّة تدفعها عشيرة الجاني الى عشيرة المجنى عليه لدرء الثأر ورفع العداوة).

اما الحق الشخصي لذوي المجني عليه، لا يمكن التنازل عنه لأنه حق خاص بهؤلاء، ولاحظنا في التطبيقات القضائية الكثيرة التي لا تعتد بالفصل العشائري للتنازل عن القاتل، اذا ذوي المجنى عليه لم يتنازلوا عن القاتل، بل أحيانا يتم الفصل العشائري ويبقى فيه القاتل مهدور الدم اذا كان هارباً عن وجه العدالة.

ومما تقدم فان قيام مجلس النواب باختزال ذوي المجنى عليه بالفصل العشائري دون ان يتم تنازلهم عن القاتل، فهو مخالف لثوابت الإسلام، ويبقى الحق قائماً لهم، وبذلك اقترن النص بالمخالفة الدستورية للمبدأ الوارد في المادة (2/أولا/أ) من الدستور التي جاء فيها (لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الإسلام).

ثالثاً: قرار المحكمة الاتحادية العليا:

في العراق يوجد القضاء الدستوري المتمثل بقضاء المحكمة الاتحادية العليا وعلى وفق ما ورد في المادة (93) من الدستور، ووجود الرقابة على دستورية القوانين هو لحماية النظام الدستوري والقانوني من ميل السلطة التشريعية وانحرافها عن المبادئ الدستورية، لذلك وجدت الرقابة الدستورية التي تمارسها المحكمة الاتحادية على وفق اختصاصها الوارد في المادة (93/1) من الدستور.

وفي ضوء هذه الصلاحية الدستورية تقدم ذوي احد المجنى عليهم (المقتول) من المحكمة الاتحادية العليا وبموجب الدعوى العدد 38 وموحداتها 39، 40، 83/ اتحادية/2025 في 23/7/2025 بطلب الحكم بعدم دستورية نص المادة (3/اولاً/ب) من قانون تعديل قانون العفو الاتي (يعد الفصل العشائري المثبت بموجب وثيقة موقعه من شيوخ عشائر وبتأييد من مديرية شؤون العشائر في المحافظة، بمثابة وثيقة تنازل المشتكي أو ذوي المجنى عليه) وذلك لمخالفته المبادئ الدستورية، وبدون اجراء أي مرافعة أصدرت المحكمة قرارها الذي قضت فيه برد دعوى واعتبرت النص المطعون فيه دستورياً لعدم مخالفته لنصوص ومبادئ دستور عام 2005.

رابعاً: تحليل قرار الحكم:

ان أي طعن في أي نص في القانون او في القانون بالمجمل يكون عرضه للفحص من المحكمة الاتحادية العليا باعتباره المحكمة الدستورية، وحيث ان الطعن بالنص القانوني محل البحث قدم من والد احد المجنى عليه، لان المحكمة المختصة شملت قاتل ولده بالعفو بعد تقديم الفصل العشائري على الرغم من عدم تنازله هو او أي من ورثة المجنى عليه، واستند المدعين الى احكام نصوص المواد (19 و 46) من الدستور، ثم ناقشت المحكمة المبدأين الواردين في المادة (19) التي جاء فيها (لكل فرد الحق في أن يعامل معاملة عادلة في الاجراءات القضائية والإدارية) وفي المادة (46) من الدستور التي جاء فيها (لا يكون تقييد ممارسة أي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها الا بقانون أو بناء عليه، على ألا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية)، وسببت المحكمة قرارها الذي قضى بدستورية النص المطعون فيه بانه لم يخل بإجراءات المحاكمة العادلة ولم يقيد حقوق المدعين.

لكن الدعوى الدستورية لها ميزة وخصوصية تختلف عن جميع الدعاوى، حيث انها من الدعاوى العينية التي يكون الخصم فيها هو النص المطعون فيه، وان المحكم ملزمة بفحص النص المطعون فيه من جميع الجوانب، وهذا اجماع فقه القانون الدستوري.

فضلاً عن ذلك فان تكييف طلبات المدعين في الدعاوى هو من اختصاص المحكمة ولا تتقيد باي سبب يذكره المدعين لتكييف الفعل، وانما لها ان تجيب الطلب لا يسبب تراه يتفق مع التكييف القانوني الصحيح، ويقصد بذلك وصف الوقائع وإبراز عناصر وشروط الواقعة القانونية الواجبة التطبيق او القيود التي ترد عليها والتكييف يحتاج إلى جهد بالمعرفة القانونية أي الإلمام بالنصوص القانونية الفاعلة وكذلك يحتاج إلى جهد منطقي لأنه يتطلب فهم للنصوص القانونية والتحري في الوقائع، ومن ثم لا يلتزم القاضي بالوصف القانوني الذي يعطيه المدعي للواقعة.

وحيث ان المحكمة الموقرة لم تلتفت الى ان النص المطعون فيه قد خالف ثابت من ثوابت احكام الإسلام، وهو وجوب ان يكون العفو عن القاتل من ولي الدم حصراً وعلى وفق ما تقدم ذكره، حتى لو لم يذكر المدعي في دعواه هذا المبدأ الا انه أشار الى ان قانون العفو محل الطعن قد خالف مبادئ الشريعة عبر إحلال الفصل العشائري محل إرادة ذوي المجنى عليه في التنازل عن القاتل.

الخلاصة: بموجب قرار الحكم أعلاه فان المحكمة الاتحادية العليا تكون قد اقرت نصاً خالف ثابت من ثوابت احكام الإسلام، واضفت عليه الشرعية الدستورية، وايدت اتجاه مجلس النواب في هذه المخالفة وقد يبنى عليها مستقبلا في قوانين ونصوص مستقبلية، وكنا نأمل من المحكمة الموقرة ان تناقش مدى مخالفته النص لنص المادة (2/أولا/أ) من الدستور التي جاء فيها (لا يجوز سن قانون يتعارض مع ثوابت احكام الإسلام)

* قاضٍ متقاعد

اضف تعليق