تأتي زيارة الأربعين لتعمق البعد الإصلاحي لمشروع الإمام الحسين، محولةً الذكرى إلى فعل، والعاطفة إلى حركة. في كل عام، ومع تدفق الملايين من المشارب والأعمار والجنسيات إلى كربلاء سيراً على الأقدام، تتجلى أعظم صور الإصلاح المجتمعي التلقائي، بعيداً عن البروتوكولات الرسمية...
عندما وقف الإمام الحسين (ع) في يوم عاشوراء تحت حرّ الشمس اللاهب، محاطًا بعشرات من الأهل والأنصار في وجه آلاف من جيوش بني أمية، لم يكن هدفه الانتصار العسكري، ولا طلب المُلك، بل كان نداءه واضحًا وصريحًا: "إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي". بهذا الإعلان، حدّد الحسين (ع) طبيعة حركته بأنها ثورة إصلاحية تهدف إلى إعادة الأمة إلى جادة الحق.
الإصلاح الذي نادى به الإمام الحسين لم يكن محصورًا في الجانب السياسي فقط، بل شمل أبعادًا روحية وأخلاقية واجتماعية. أراد أن يعيد للناس وعيهم الذي سُلب منهم تحت وطأة الاستبداد الأموي، وأن يعيد تعريف مفاهيم الدين التي جرى تحريفها لخدمة السلاطين. لم يقبل الحسين (ع) أن يُشرعن الطغيان باسم الإسلام، فوقف في وجهه، ودفع حياته ثمناً لذلك.
ولعلّ أعظم ما يميز مشروع الإمام الحسين هو قدرته على التجدد في ضمير الأمة. فها نحن بعد أكثر من أربعة عشر قرنًا، نستلهم من عاشوراء معاني الكرامة، ونعيش مع الحسين روح المقاومة. لم تكن كربلاء لحظةً انتهت باستشهاد الإمام، بل تحوّلت إلى مدرسةٍ قائمة بذاتها، يتخرج منها الأحرار في كل عصر، ويهتدون بها في دروب النضال.
إننا حين نستذكر كربلاء في كل عام، لا نمارس طقسًا شعائريًا جامدًا، بل نحيي مشروعًا حيًّا متحركًا. البكاء على الحسين ليس مجرد عاطفة، بل تعبير عن موقف. واللطم ليس مجرد حزن، بل هو تعبير عن رفض الظلم. والمجالس الحسينية ليست مواسم موسمية، بل منصات لبث الوعي، ومواطن لتربية الأجيال على حب العدالة والصدق والإيثار. وإذا كان الحسين قد واجه يزيد في كربلاء، فإن كل عصر يحمل طغاته ويزيده الخاص. ومن يتبع خطى الحسين، لا بد أن يحمل هم الإصلاح في مجتمعه، وأن يقف بشجاعة في وجه الفساد أينما وُجد. فأن تكون "حسينيًا" اليوم لا يعني فقط أن تبكيه، بل أن تتحمل مسؤولية امتداد نهضته، وتُترجم قيمه في واقعك. أن ترفض المساومة على الحق، وأن تنحاز للمظلوم، حتى لو كنت وحدك.
تأتي زيارة الأربعين لتعمق البعد الإصلاحي لمشروع الإمام الحسين، محولةً الذكرى إلى فعل، والعاطفة إلى حركة. في كل عام، ومع تدفق الملايين من المشارب والأعمار والجنسيات إلى كربلاء سيراً على الأقدام، تتجلى أعظم صور الإصلاح المجتمعي التلقائي، بعيداً عن البروتوكولات الرسمية. إن هذه المسيرة المليونية ليست مجرد طقس عبادي، بل هي تجسيد حي لمشروع الحسين المتجدد في الواقع الراهن.
ففي درب الأربعين، تُستلهم دروسٌ عميقةٌ يمكن تطبيقها في حياتنا اليومية وسعينا للإصلاح:
الكرم والتكافل الاجتماعي: يُشاهد الزائر أعظم صور العطاء غير المشروط، حيث تتسابق المواكب والهيئات والأفراد لتقديم الطعام والشراب والمأوى والخدمات الطبية مجاناً. هذا النموذج من التكافل يمكن أن يكون مناراً لنا في بناء مجتمعات أكثر عدلاً وإنسانية، حيث يتكافل الأفراد فيما بينهم لسد الحاجات وتعزيز الروابط الاجتماعية، بدلاً من التنافس والصراع. إنها دعوة لإصلاح مفهومنا للعطاء، وجعله جزءاً أصيلاً من حياتنا، لا عملاً موسمياً.
الوحدة وتجاوز الفوارق: يذوب في هذا المسير كل تصنيف أو انتماء ثانوي. يختفي الغني والفقير، المتعلم والأمي، ابن المدينة وابن الريف، ليصبح الجميع "زائراً" و"خادماً". هذا المشهد المذهل يُعلمنا أن الإصلاح الحقيقي يبدأ بتجاوز خلافاتنا الجزئية والمذهبية، والتركيز على القواسم الإنسانية المشتركة. إنه درس في قبول الآخر والتآخي من أجل هدف أسمى، وهو ما نحتاجه بشدة في واقعنا المعاصر المليء بالاستقطابات.
الصبر والمثابرة على الحق: المسير الطويل والشاق، وما يصحبه من تعب جسدي، ينمّي في الزائر صفات الصبر والتجلد والمثابرة. هذه الصفات هي جوهر أي مشروع إصلاحي. فالتغيير نحو الأفضل لا يأتي بالراحة أو الاستسلام، بل يتطلب نفساً طويلاً وعزيمة لا تلين في مواجهة التحديات والعقبات.
الوعي بالظلم ومقاومته: تذكرنا زيارة الأربعين بأن مشروع الحسين الإصلاحي لا ينتهي بمجرد تلاوة السيرة، بل يبدأ بوعينا للظلم والفساد المحيط بنا في كل زمان ومكان. فمن يلهم من الحسين، لا يمكنه أن يقف مكتوف الأيدي أمام الفساد الإداري، أو الظلم الاجتماعي، أو التزييف الفكري. إنها دعوة للمساءلة، للمطالبة بالحقوق، ولرفض التراخي في وجه أي انحراف عن جادة العدل.
التربية على الإيثار والشجاعة: في درب الأربعين، يرى الأطفال والشباب بأعينهم نماذج حية للإيثار والشجاعة والتفاني في الخدمة. هذه التجربة المباشرة تُعد تربية عملية لا تُضاهيها الكتب أو المحاضرات. إنها تُساهم في بناء جيل يحمل قيم الحسين في قلبه وسلوكه، جيل قادر على أن يكون عنصراً فاعلاً في إصلاح مجتمعه.
مشروع الإمام الحسين الإصلاحي يتجدد كلما انحرفت البوصلة، وكلما طغت المصالح على المبادئ. في مؤسساتنا، في بيوتنا، في أسواقنا، في مدارسنا، نحن بحاجة إلى الحسين، لا رمزًا فقط، بل منهاجًا حيًّا نستلهم منه الشجاعة والصدق والوفاء.
في شهر محرم، تتوشّح المدن بالسواد، وتُرفع رايات الحسين، وتُقرأ سيرته، لكن الواجب الأكبر أن تُترجم هذه الذكرى إلى يقظةٍ في الضمير، ونهضةٍ في السلوك، وإصلاحٍ في النفس والمجتمع. إن الحسين لا يريد منا دموعًا فحسب، بل يريد عقولًا واعية وقلوبًا نابضة بالإرادة، وأفعالًا تسير في درب "هيهات منا الذلة".
إن الإمام الحسين (عليه السلام) لم يكن شهيد كربلاء فحسب، بل كان وما يزال شهيد الإصلاح، والمصلح الأعظم الذي علّم البشرية كيف تقف شامخة في وجه الطغاة، مهما كانت قلة العدد، ومهما تعاظم العدو. فإن نداء الحسين لا يزال يُسمع في آذان الأحرار: "من كان باذلاً فينا مهجته، وموطّنًا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا."
اضف تعليق