أيام المشي على الاقدام لمسافات طويلة باتجاه مدينة كربلاء المقدسة، تمثل فرصة عظيمة لا تتوفر إلا مرة واحدة في السنة لمراجعة الذات وإعادة النظر في السلوك والممارسة والتفكير لتحطيم كل الاسوار المشيّدة حول معاقل الفساد الحكومي، وهذا لا يحصل هذه الأيام، فالزائرين –ونحن معهم ان شاءالله- نقصد مرقد الامام الحسين لزيارته...

"ليَستنقذَ عِبادَكَ مِنَ الجَهالةِ وحَيرةِ الضَلالة".

من زيارة الامام الحسين في أربعينيته

يسأل الكثير هذه الأيام عن كيفية اجتماع الحشود المليونية الزاحفة نحو مرقد الامام الحسين لإحياء أربعينيته، وأيضاً؛ نهضته الإصلاحية الخالدة، مع استمرار حالات الفساد في المجتمع والدولة، فأين المشكلة؟

بالإمكان الإجابة على هذا السؤال من خلال العودة سريعاً الى تاريخ هذه الزيارة الراجلة منذ اكثر من أربعة عشر قرناً من الزمن، وكيف كانت عبارة عن ممارسة مرتبطة عضوياً بمعركة الطف، ولكن بشكل آخر، عندما كان السلطات الأموية والعباسية تحظر زيارة مرقد الامام الحسين، عليه السلام، وتعاقب عليه بقطع الأطراف وإزهاق الأرواح، كما فعل ابن زياد بالضبط، بمحاصرة معسكر الامام الحسين في كربلاء، لئلا يلتحق به أحدٌ من الكوفة أو أي مكان آخر. 

الفاسد والظالم يخشى الاجتماع والتظاهر 

في الأنظمة المُدعية تطبيق الديمقراطية تمنح الناس حقّ التجمع والتظاهر وفق ضوابط قانونية خاصة، فمثلاً؛ التظاهر اعتراضاً على إجراءات او قوانين معينة، مباحة للتجمعات النقابية والاجتماعية وغيرها، مع أخذ الترخيص من الشرطة بدعوى توفير الحماية لهم، والحفاظ على أمن واستقرار الشارع، او ربما لاسباب أخرى.

أما في البلدان المُدعية حب الناس لحكامها فان ديمقراطيتها لا تنصحها بإعطاء الحق للتظاهر اعتراضاً على إجراءات او قوانين جائرة، لأن الناس ستجد في نفسها الثقة والقدرة بتغيير النظام السياسي الفاسد برمته، و إن أعطتها فانها تقتلها معنوياً باتهامها بأنها "سياسية"، او "تخلّ بالأمن والاستقرار والنظام"، ولذا نلاحظ معظم الأنظمة الفاسدة، وقبل ان تضطر لمثل هذا الرد، فانها تستبق الاحداث وتقوم باجراءات تمييع لإرادة الناس، وقتل روح المبادرة فيهم، من خلال التغرير بالاموال والامتيازات والمنح المالية، واستسهال حالات الرشوة والمحسوبية وعدّها حالة طبيعية لابد لها في دوائر الدولة، لإشراك الجميع في جريمة الفساد لتكون ظاهرة عامة، وليست مشكلة او مرض يجب مكافحته عند السياسيين. 

وهذا ما كان يفعله بالضبط؛ الحكام الأمويون والعباسيون من قبل، ينثرون الأموال على المدّاحين والمتزلفين و وعاظ السلاطين، ثم فتح الأبواب أمام كل أنواع الموبقات والمفاسد الاجتماعية لتمييع الناس وإبعاد فكرة مواجهة فساد الحكومة عنهم، وهي مسألة منطقية كما يبدو؛ فكيف يمكن لمن يعيش الفساد أن يحاربه ويتكلم ضده؟!

الى جانب هذه المسيرة، كانت مسيرة الشعائر الحسينية التي رفع لوائها الأئمة المعصومين، عليهم السلام، منذ الامام زين العابدين، عليه السلام، بدءاً بالبكاء، ثم إقامة المجالس، والتشجيع على أدب الرثاء، ومن ثمّ الحثّ والتأكيد؛ كما جاء في عهد الامام الصادق، عليه السلام، على زيارة مرقد الامام الحسين، عليه السلام، في مناسبات عديدة طوال العام، والتأكيد بشكل خاص على زيارة الأربعين كونها تمثل امتداداً لنهضة الامام الحسين الإصلاحية، فهي تحمل نفس لواء الإصلاح والتغيير في الأمة، ومحاربة الفساد والظلم في أروقة الحكم.  

وعي الحالة

أشرت الى هذه الحقيقة من مقالات سابقة، أن تغيير أي حالة في المجتمع يحتاج الى وعي هذه الحالة والاعتراف بوجود الخلل او المرض، كما يحصل عندما يصاب الانسان بحالة مرضية في بدنه، فإن عليه أن يفصح للطبيب بمرضه وإلا لن يتمكن الطبيب من معالجته وإزالة المرض عنه، وهكذا الحال بالنسبة لحالات الفقر، والأمية، والتخلف، والفساد بمختلف اشكاله؛ الأخلاقي، والاجتماعي، والسياسي. 

وفي زيارة الأربعين هذه الأيام ينبغي استثمار فرصة الوعي لكل الازمات والمشكلات التي نعيشها حتى يتسنّى لنا معالجتها بشكل صحيح، وهذا تحديداً ما يريده منّا الامام الحسين، عليه السلام، ويرجو تحقيقه من وراء تضحياته الجسام يوم عاشوراء.

نقرأ في زيارة الأربعين هذه الأيام، نقلاً عن الامام الصادق، عليه السلام: "أللهم إني أشهد أنه وليُّك و ابن وليِّك وصفيّك وابن صفيك الفائز بكرامتك، أكرمته بالشهادة وحبوته بالسعادة..."، وبعد سلسلة من المناقب والكرامات الإلهية، تأتي جملة السبب والعلّة لكل هذا: "فأعْذرَ في الدعاء و مَنحَ النُصحَ وبذل مُهجتهُ فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة".

إن الجهل مشكلة ذاتية تخصّ الفرد والجماعة في الأمة، أما الضلالة او التضليل، فهي مسألة تعود الى السلطة والحكام، فهم من يحتاجونها للبقاء فترة أطول في قمة السلطة، وأيام المشي على الاقدام لمسافات طويلة باتجاه مدينة كربلاء المقدسة، تمثل فرصة عظيمة لا تتوفر إلا مرة واحدة في السنة لمراجعة الذات وإعادة النظر في السلوك والممارسة والتفكير والمنظومة الثقافية والأخلاقية بشكل عام لتحطيم كل الاسوار المشيّدة حول معاقل الفساد الحكومي، وهذا لا يحصل هذه الأيام، فالزائرين –ونحن معهم ان شاءالله- نقصد مرقد الامام الحسين لزيارته، والحركة كلها ذات بعد معنوي خالص، إنما العمل في قادم الأيام باتخاذ ما يلزم لتغيير الوضع بشكل عام من خلال الاختيار الصحيح لمن يكون صالحاً لتمثيل الشعب في البرلمان وفي الحكومة، والبحث عمن لم تتلوث يده في الفساد والظلم، ليس هذا وحسب، وإنما الاستمرار في المتابعة للأداء الحكومي بشكل عام، لأن الفساد هو فايروس يبحث عن الحاضنة المساعدة للنمو الانتشار، فاذا انعدمت هذه الحاضنة نعرف أننا في أمان –ولو بنسبة معينة- من الفساد بكل أشكاله.

اضف تعليق