ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى مولد الإمام محمد بن علي الباقر، عليهما السلام، نستذكر الثغرة الكبيرة التي خلفها نظام الحكم الأموي في الاقتصاد الإسلامي بسبب استمرار اعتماده على العملة الرومية حتى عام 76للهجرة، أي بعد ستة وثلاثين عاماً من قرار أمير المؤمنين بضرب السكّة الإسلامية ومعارضة معاوية لهذه القرار...

عندما انتصر أمير المؤمنين، عليه السلام، في حرب الجمل، واستقر به المقام في البصرة عام 40 للهجرة، دعا الى ضرب السكّة وإنشاء عملة إسلامية جديدة لأول مرة تعمّ البلاد الإسلامية كلها بما فيها الشام، وهو ما عظُم على الأمويين الانصياع له، وهم يرفعون راية التمرّد عليه، عليه السلام، ويعدون أنفسهم حكاماً في منطقة أشبه ما تكون وفق المصطلح الجديد؛ منطقة حكم ذاتي، منفصلة عن الخارطة السياسية للدولة الإسلامية، فلم يُكتب النجاح لخطة الإمام بسبب معارضة الأمويين، وشخص معاوية لهذا القرار ليبقى المسلمون يتداولون العملة الرومية –المسيحية فيما بينهم.

هذه المعارضة لها دلالة تاريخية وحضارية مذهلة تكشف عن تفضيل معاوية (المسلم)، العملة الرومية (المسيحية) على فكرة أمير المؤمنين بإنشاء عملة إسلامية جديدة وخاصة بالمسلمين، لها فوائد جمّة أبرزها توفير أساس متين لنظام اقتصادي في الدولة الإسلامية، بما يعني أن هذه الدولة الفتية كانت تشكو طوال أربعين عاماً منذ هجرة رسول الله الى المدينة وتشييده الدولة الإسلامية، من ثغرة في نظامها الاقتصادي كونها تتعامل بعملة بلد وأمة أخرى، وكانت القيمة تُحدد وفق الأشياء الموجودة، مثل قيمة الشاة تساوي دنياراً واحداً او اكثر، وقد باع أمير المؤمنين درعه بأربعين درهماً لتوفير مهر لزواجه من الصديقة الزهراء، عليهما السلام، علماً أن العملة النقدية ظهرت لأول مرة في الدولة الرومانية على شكل مسكوكات من البرونز والفضة عام 300قبل الميلاد، تم تطورت هذه العملة مع مرور الزمن حتى نشوء الدولة البيزنطية.

ونحن نعيش هذه الأيام ذكرى مولد الإمام محمد بن علي الباقر، عليهما السلام، نستذكر الثغرة الكبيرة التي خلفها نظام الحكم الأموي في الاقتصاد الإسلامي بسبب استمرار اعتماده على العملة الرومية حتى عام 76للهجرة، أي بعد ستة وثلاثين عاماً من قرار أمير المؤمنين بضرب السكّة الإسلامية ومعارضة معاوية لهذه القرار، حتى جاء القرار من الحاكم الأموي عبد الملك بن مروان، وفي عهد الامام الباقر بأن تضرب السكّة الإسلامية، وكان وقتها يُعد مغامرة اقتصادية لارتباط النشاط التجاري للمسلمين بالعملة الرومية، وعدم رغبة ملك الروم آنذاك بخسارة هذا التفوق الاستراتيجي على المسلمين، فهدد الحاكم الأموي- الإسلامي بأن في حال إصرارك على قرارك "أتاكم من دنانيرنا من شتم نبيكم ما تكرهون"! وقد حاججه الملك الرومي في قراره الجديد بأن "إن كان من تقدمك من الخلفاء قد أصاب، فقد أخطأت، وإن كنت قد أصبت فقد أخطأوا"، في إشارة واضحة الى عدم شرعية الحاكم الأموي بأن يتخذ قرار بهذا الحجم، فأسقط في يديه.

لم يكن أمام الحاكم الأموي بُداً من الاستعانة بالإمام الباقر، عليه السلام، لمعرفته بأن هو الامتداد الطبيعي لرسول الله، صلى الله عليه وآله، فأمره بأن يضرب السكّة ديناراً و درهماً، ويجعل النقش في وجه؛ سورة التوحيد، وفي الوجه الاخر؛ ذكر النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، ليس هذا فقط، بل أكمل الإمام مشروعه الاقتصادي الفذّ بأن يذكر فيه البلد الذي تضرب فيه السكة وتاريخ صناعتها، ثم الكتابة الى الولاة في جميع البلدان الإسلامية بالتعامل بها وتحريم التعامل بالعملة الرومية.

وهكذا تم إحباط كل التهديدات الفارغة للدولة الرومية، واكتسب الاقتصاد الإسلامي قوة جديدة وأداة رصينة للتعامل والتداول ليشهد نمواً وتقدماً مع الزمن، فقد أصبح بيد المسلمين مئات الآلاف من الدراهم والدنانير الاسلامية منتشرة من أقصى الشرق الى أقصى الغرب من بقاع الدولة الإسلامية. 

فما كان جزاء الامام الباقر، عليه السلام، من نظام الحكم الذي يعد نفسه امتداداً لحكم رسول الله؟

بعد الرحلة الأولى للإمام الى الشام في عهد عبد الملك بن مروان، والتي حظيت بحفاوة وتكريم لحاجته اليه في أمر العملة النقدية، صدر القرار من الشام نفسها في عهد هشام بن عبد الملك بإحضار الإمام الباقر، وهذه المرة بطريقة مغايرة تماماً، فقد جاء، عليه السلام، مخفوراً بسبب وشايات كاذبة اعتاد عليها البلاط الأموي من متزلفين و جواسيس تتهم الإمام بأن يفسر القرآن الكريم بما لا يرضي الحاكم الأموي، ويشكل خطراً على وجوده السياسي. 

يقول الامام الصادق، عليه السلام، عن تلك الرحلة بأن "لما أشخص أبي محمد بن علي الى دمشق، سمع الناس يقولون: هذا ابن أبي تراب! فأسند ظهره الى جدار القبلة، ثم حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ثم قال: اجتنبوا أهل الشقاق، وذرية النفاق، وحشو النار، وحصب جهنم، عن البدر الزاهر، والبحر الزاخر، والشهاب الثاقب، وشهاب المؤمنين، والصراط المستقيم، من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها، او يلعنوا كما لُعن أصحاب السبت، وكان أمر الله مفعولا، أبصنو رسول الله تستهزئون؟! أم بيعسوب الدين تلمزون؟! وأي سُبل بعده تسلكون". (سيرة أهل البيت، تجليات للإنسانية- السيد عباس نصر الله)

وهم يتعرضون للاستفزاز والإهانة، لا يحيد أئمة أهل البيت، عليهم السلام، عن التمسك بالنهج النبوي والعلوي بتفضيل مصلحة الرسالة السماوية، ومصلحة الأمة على كل الضغوط النفسية، وحتى التهديد بالموت، ثم يكشفون لجمهور الجهل والغفلة، وللتاريخ منزلتهم في الإسلام، وسبب وجودهم في الحياة في مقابل نظائر مثل الحكام الأمويين، ومن على شاكلتهم من حكام الجور والفساد.

اضف تعليق