تجارب الشعوب، يجب أن تكون دروسا لمن يتصدى للمسؤولية اليوم، فالذين تملكتهم الحماسة العقائدية أو الثورية، في مناخ دولي مشبع بالحماسة والصراعات العقائدية في حقبة الحرب الباردة وحتى قبلها، يجب أن يدركوا أن الظرف اختلف تماما، وأن عالم اليوم يعيش ما يمكن تسميته بـ الواقعية السياسية...
سيطر الجناح اليساري الراديكالي (الماركسي) في (الجبهة الشعبية لتحرير جنوب اليمن) على السلطة في (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) بعد الاطاحة بالرئيس قحطان الشعبي في العام 1969 والذي كان يمثل الجناح اليساري القومي المعتدل، أحد قطبي الجبهة.
وقد خلف الشعبي الرئيس سالم ربيع علي، المعروف، خلافا لرفاقه الماركسيين، باعتداله وعدم ميله إلى اقامة حزب اشتراكي وتطبيق النموذج السوفييتي (الماركسي اللينيني) في اليمن ورغبته في انجاز مشروع الوحدة مع الشمال، اذ يمكن وصف الرجل بأنه حامل أفكار يسارية اكثر مما هو عقائدي متزمت، لكن الوحدة لم تتحقق بسبب عوائق اقليمية لامجال هنا لسردها، وقد راح هو فيما بعد ضحية لمشروعه الوحدوي هذا في حزيران من العام 1978 على يد رفاقه في قصة مؤلمة جدا.
في العام 1977 شن الصوماليون هجوما واسعا على اثيوبيا، بقصد استعادة اقليم (اوغادين) المحتل من قبلها، وكان ذلك ايام حكم الرئيس الشيوعي منغستو هيلا مريام، فتدخلت كوبا الشيوعية لدعم اثيوبيا بقوة قوامها 16 الف جندي، كما تذكر المصادر، ووقف السوفييت مع حليفهم طبعا بنحو 1500 خبير، لكن المثير هنا حقا، هو أن اليمن الجنوبي، وبضغط من الماركسيين الراديكاليين على الرئيس سالم ربيع علي قرروا ارسال قوة تقدر بـ 2000 جندي يمني ليحاربوا إلى جانب اثيوبيا الشيوعية، ضد الصومال، الأمر الذي تسبب بهزيمة للصوماليين الذين كانوا قد سيطروا على 90 بالمئة من اراضي اقليم أوغادين، وكادوا أن يحرروه بالكامل. بعد الاطاحة بالزعيم المعتدل سالم ربيع علي في حزيران العام 1978 واقامة الحزب الاشتراكي اليمني (ماركسي لينيني) بزعامة عبد الفتاح اسماعيل، الذي كان من اكثر المتشددين، وجد الحزب نفسه في صراعات دموية على السلطة، أتت على اغلب قياداته قبل ان ينتهي تقريبا، كحزب قوي في تسعينيات القرن الماضي، بعد ان ترك خلفه رحلة اتسمت بالصراعات والقرارات المثيرة، ولعل اكثرها اثارة للدهشة، هو الموقف من شعب يريد ان يستعيد ارضه المحتلة، بذريعة الوقوف مع نظام يراه قادة الحزب انه حليفهم عقائديا!
الغريب والمضحك معا هو ان الرئيس الصومالي وقتذاك، محمد سياد بري، كان قبل مجيء الشيوعيين للسلطة في اثيوبيا، يتبنى أفكار اليسار! ويطلب المساعدة من المعسكر الاشتراكي لإستعادة ارضه من اثيوبيا التي يحكهما الامبراطور هيلاسي لاسي، وبعد الانقلاب الشيوعي في اديس ابابا ومجيء منغستو هيلا مريام، سيصبح محمد سياد بري، يمينيا هذه المرة، ليطلب المساعدة من القوى الراسمالية!
من يتأمل فيما جرى، لا بد له من ان يخرج بدرس كبير، تداخلت فيه المأساة بالملهاة، والحقائق بالأوهام، وان الأمر يبدو كما لو انه كابوس سيطر على عقول الكثيرين، ممن يعتقدون انهم يتبنون افكارا ورؤى، بينما في الحقيقة أنهم يتبنون أوهاما ويعملون على تصديقها، وأن الزمن اثبت حقيقة هذه الاوهام!.
تجارب الشعوب، يجب أن تكون دروسا لمن يتصدى للمسؤولية اليوم، فالذين تملكتهم الحماسة العقائدية أو الثورية، في مناخ دولي مشبع بالحماسة والصراعات العقائدية في حقبة الحرب الباردة وحتى قبلها، يجب أن يدركوا أن الظرف اختلف تماما، وأن عالم اليوم يعيش ما يمكن تسميته بـ (الواقعية السياسية)، أي أن الزعيم الناجح هو من يستطيع أن يوسع علاقاته مع الجميع، بما يضمن مصالح شعبه ويؤمن له حياة كريمة بعيدة عن الاوهام، وان العقائد والافكار ليست خطأ بذاتها حين تكون في سياق الحوار وانضاج الرؤى لخدمة الناس، وانما الخطأ بتحويلها إلى مبررات للصراعات الدموية ووسائل لزج الشعوب في حروب لا مصالح لها فيها، وهو ما ينبغي معرفته، ومن لا يريد معرفة ذلك ويبقى غارقا بأوهامه، سيحصد الريح، تماما كما حصد أبناء اليمن الجنوبي ثمار (نضالهم العقائدي) في اثيوبيا التي باتت اليوم، كما اليمن، في حال معروف للجميع.
اضف تعليق