ان تداعيات هذه الحرب التي بدأت بسبب شك قائد الدعم السريع (حميدتي) بنيّات رئيس مجلس السيادة البرهان بعد اجراءات اتخذها الأول قبل اكثر من عامين، لتندلع شرارة الحرب التي اصبح من المؤكد ان قوى دولية لها مصالح معينة في هذا البلد، كانت وراء اندلاعها وديمومتها، لكي تصل إلى الهدف السياسي الذي سينضج على وقع الجرائم والانتهاكات...
بعد نجاح الانقلاب الذي قاده الفريق عبدالرحمن سوار الذهب في العام 1985 وأطاح بالرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري، تصور الأول أن الحرب الاهلية بين شمال السودان وجنوبيه، والتي تركت وراءها عقودا من الدم والخراب قد انتهت، وأن عهدا جديدا قد بدأ.
لكن وبعد اتصالات غير مجدية للرئيس الجديد سوار الذهب بزعيم (الحركة الشعبية لتحرير السودان) جون قرنق الذي اصر على استمرار الحرب، اطلق الرئيس صرخته التي تناقلتها وسائل الاعلام العربية وقتذاك، وقد قرأتها بحروف كبيرة على غلاف احدى الدوريات العربية الشهيرة وكانت خلاصتها: (سوار الذهب مخاطبا قرنق؛ هل انت ضد السودان كله؟).
في الحقيقة أن النيات الطيبة لسوار الذهب جعلته يعتقد أن خلاف الخرطوم مع الحركة اجرائيا، ويمكن بالتفاهم الداخلي حل القضايا العالقة، التي اتكأت على موضوعة الاختلاف الثقافي.. اغلبية من المسلمين في الشمال، واغلبية من المسيحيين والوثنيين في الجنوب.
وان ما اذكى هذا الخلاف وعمّقه خلال حكم نميري هو النزعة الإسلاموية التي أبداها الاخير قبل الاطاحة به حيث أعلن عن تطبيق الشريعة الاسلامية.. لكن الحقيقة اكبر من ذلك بكثير، لأن الحرب كانت قد بدأت قبل ذلك بعقود، والتحديات التي واجهها نميري في الداخل والمتمثلة بصعود التيار الاسلاموي دفعته إلى التحالف أو التناغم معه لاستقطابه والاستقواء به، خلال المواجهة مع الجنوب الذي كان يرفع شعارات الدولة المدنية في دولة متعددة الثقافات.
في الجانب الآخر اخذت (الجبهة الشعبية لتحرير السودان) تستثمر ايضا في موضوعة الشريعة الاسلامية لاستقطاب مضاد، ما عزز الخلاف ورفع منسوب المواجهة، التي استمرت حتى بعد انقلاب عمر احمد البشير في العام 1989 والذي يقال إن الاسلامويين وقوى قومية اخرى كانوا وراءه، الأمر الذي كرّس الاستعصاء وجعل الحرب تتمدد وتطول وتنهك السودان، الذي كان مخططا له أ يتقسّم وفق أجندة معدة مسبقا، وأن تنفيذ التقسيم على الارض يحتاج إلى مقدمات دموية كما حصل ويحصل في مناطق كثيرة من العالم، مثل يوغسلافيا وغيرها.
وصل الرئيس السوداني البشير اخيرا إلى قناعة بان انفصال الجنوب بات أمرا مفروغا منه، وأن هناك ارادة دولية خارجية قوية تسعى لذلك وأن السودان لم يعد قادرا على الاستمرار في مواجهة مفتوحة تستنزف اقتصاده المتعب اصلا، فكان اتفاق 9 كانون ثاني/ يناير من العام 2005 يوم الاتفاق بين الحكومة المركزية و(الجبهة الشعبية لتحرير السودان) في العاصمة الكينية نيروبي، لايقاف الحرب والاعلان عن موعد للاستفتاء وسيكون هو من سيقرر مصير الجنوب.
جرى الاستفتاء في العام 2011 أي بعد ست سنوات تقريبا وانتهى الاستفتاء بانفصال الجنوب، لكن مأساة السودان ستتمدد فصولا اخرى شهدنا اقساها بعد اندلاع ما يعرف بالربيع العربي الذي اسقط البشير من دون أن يسقط الاجندة المعدة لهذا البلد الكبير، والذي كان يراه كثيرون بانه من الممكن ان يكون سلة الغذاء العربي لما يمتلك من مساحة زراعية شاسعة، من الممكن لو استثمرت بمساعدة العرب أو غيرهم لكانت سلة غذاء كبرى تفيض حتى لخارج البلدان العربية.
الّا أن المخطط للسودان يتجاوز ما حصل مع الجنوب إلى تقسيم الشمال نفسه، أي تقسيم المقسم، وهو ما بات واضحا اليوم بعد ان تأكد للجميع من ان (قوات الدعم السريع)، التي هي بالأصل من مخرجات مرحلة الحرب الاهلية والفوضى التي شهدتها البلاد في العقود الاخيرة، وتمثل واجهة دولية لتنفيذ أجندة يصعب علينا معرفة حدودها بالضبط.
لكن المؤكد أن تداعيات هذه الحرب التي بدأت بسبب شك قائد الدعم السريع (حميدتي) بنيّات رئيس مجلس السيادة البرهان بعد اجراءات اتخذها الأول قبل اكثر من عامين، لتندلع شرارة الحرب التي اصبح من المؤكد ان قوى دولية لها مصالح معينة في هذا البلد، كانت وراء اندلاعها وديمومتها، لكي تصل إلى الهدف السياسي الذي سينضج على وقع الجرائم والانتهاكات التي ستكون مدخلا لتقسيم نفسي مطلوب وصولا إلى تقسيم الارض أو اقامة نظام سياسي واهن ومفكك في دولة ضعيفة، وسيكون هذا شكلا من أشكال التقسيم الذي بدأ في المنطقة منذ اكثر من عقدين ولا نعلم إلى اين سينتهي وكيف؟!



اضف تعليق