q
إن تحول الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من مجرد فريضة عبادية الى ثقافة عامة، قادرة على صنع الأمل في النفوس المرحبة دوماً بالإصلاح والتغيير، وإلا فان دولاً تدعي تطبيق الاسلام، رفعوا هذه الفريضة في لافتاتهم وجعلوها شعاراً يضفي مسحة من الشرعية على نظام حكمهم...

{وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً}

سورة الجِن- الآية:16

شدة الازمات وقساوة الظروف تدفع الناس للبحث عن خشبة الخلاص بكل الطرق والاشكال، فيخلو الجو للشعارات الكبيرة والوعود والآمال بلا حسيب او رقيب، ولكن؛ نظرة متأنية للواقع، ثم مراجعة الذات والقدرات، تكفينا لرسم خارطة طريق مستقيمة للنجاة والتحول من الفساد الى الصلاح.

الأمل انتاج محلّي

يكتب العلماء والمفكرون عن مسؤوليات الحكام في صياغة أنماط مقبولة للتعامل مع افراد الشعب، والحرص على تشريع القوانين، ثم الأمانة في التطبيق لتوفير القدر الممكن من الرفاهية والاستقرار، بيد أنهم ليسوا أمام أحجار على رقعة الشطرنج، او دمى يحركوها من الأعلى، وهو ما لا يرتضيه أحد، بل يتصدر الحديث بالمقابل عن دور الافراد والجماعات في التأثير على ما تتخذه الانظمة السياسية من قرارات وتسنّه من قوانين، ومن ثمّ نكون أمام عملية انتاج أمل من الداخل، وليس فقط مما تنتجه الاحزاب السياسية وأهل الحكم.

وحتى لا ننزلق في متاهات الشعارات مرة اخرى، نسترعي الانتباه الى مسألتين: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومكافحة الجهل، في الايام الماضية عشنا ذكرى مولد الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، وما تحمله من آمال الخلاص والتغيير الشامل، تمثل ثقافة عامة للانتظار العملي المستدام؛ على صعيد الافراد والجماعات، وابرز ما تتضمنه هذه الثقافة؛ الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليس فقط على مستوى الافراد فقط، وإنما التقدم خطوة الى الامام حيث قمة الحكم ومن لهم التأثير المباشر على الحياة العامة عندما يسنون سنّة الفساد والظلم، "فيجب التصدي لهم بأية طريقة ممكنة، عقلية، او عرفية، وعن طريق المقالات والدراسات والبحوث عبر الشبكة العنكبوتية، كما يكون التصدّي للحاكم عن طريق الحوار احياناً، ولكن الحوار الحقيقي الذي تسنده القوة الجماهيرية، والمؤسسات القوية والقيادة الحكيمة الشوروية، وليس الحوار الذي يراد منه خداع الناس والمماطلة ريثما تخبو جذوة الحماس". (ملامح العلاقة بين الدولة والشعب- آية الله سيد مرتضى الشيرازي).

إن تحول الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من مجرد فريضة عبادية الى ثقافة عامة، قادرة على صنع الأمل في النفوس المرحبة دوماً بالإصلاح والتغيير، وإلا فان دولاً تدعي تطبيق الاسلام، رفعوا هذه الفريضة في لافتاتهم وجعلوها شعاراً يضفي مسحة من الشرعية على نظام حكمهم، كما حصل لفترة من الزمن في السعودية، وهي عبارة عن ضرب بالعصي في الشوارع، وتحديد للحريات الفردية، فما لبثت أن تخلّت عن هذا الشعار لصالح طارئ سياسي، فأعلن الحاكم الجديد، ليس فقط لجم لجان الامر بالمعروف، وإنما أطلق العنان للراغبين بممارسة المنكر عياناً بذرائع لا يقبلها عقل ولا شرع، و بها قتل آخر أمل بالتغيير الحقيقي والشامل في السعودية.

أما الاستحقاق الثاني في مصنع الأمل فهو؛ مكافحة الجهل؛ وهو المفهوم الديني الوارد في القرآن الكريم لتحذير البشرية من مغبة السقوط فيه، كما انه معلولٌ للتخلف والحرمان ولكل المصائب التي تتخبط فيها الشعوب المأزومة، و"أول منشأ للتخلف هو الجهل، فالإنسان الجاهل بطبيعته متخلف، والانسان العالم علمه نور، وهذا النور يرشده الى سبل التقدم والازدهار"، بمعنى أن جذر المشكلة يكمن في الجهل وليس التخلف، كمفردة يتم الترويج لها ضمن السلع الثقافية، ولعل ما يثير الأسى والأسف أن نشهد تغييب مريب لمفهوم الجهل، وترويج مفهوم التخلف في الادبيات السياسية والثقافية طيلة القرن الماضي، فقد تأسست أحزاب، وتشكلت تيارات، ونُظمت التظاهرات والاحتجاجات، واشتعلت ثورات راح ضحيتها الآلاف بين قتيل ويتيم ومزيد من الآهات والمعاناة في البلاد الثورية لإيهام الناس بأنهم يضحون بأنفسهم لتجاوز مرحلة التخلف الى مرحلة التقدم.

نعم؛ لقد وصل التقدم المذهل بلادنا منذ القرن الماضي، وحتى القرن الجديد، بيد أن الشباب يجهل استخدام الطائرات، والمعدات الطبية المعقدة، وأنظمة الحاسوب، وحتى طريقة تفريخ الدجاج! إلا بشفرات ورموز يتعلمها ابناؤنا ليتمكنوا من العمل والانتاج.

وهذا يفسّر هاجس الانظمة الديكتاتورية من الوعي واليقظة الفكرية لدى الشعوب، وأن تنفجر بوجوههم دفائن العقول، فهم لم يمنعوا الحديث عن التقدم واقتناء مفرداته، بل ويحثّون عليه كونه يساعد على تشغيل المصانع الغربية على مدار اربع وعشرين ساعة، ولكنهم كانوا، وما يزالون يكممون أفواه من يتحدث عن الجهل وضرورة محاربته، لأن ورائه العلم والمعرفة، ثم؛ الرشد في مفهومه الديني، وممن فطن الى هذه المعادلة وأثار مخاوف الحكام؛ المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- الذي يتحدث عنه نجله آية الله السيد مرتضى الشيرازي بانه "كان كثيراً ما يستشهد بالآية الكريمة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ}، والرشد الفكري هو من مصاديق الرشد".

النتائج من سنخ المقدمات

عندما نضع طموحاتنا الثقيلة على شخوص سياسية (مسؤولين) لابد من اعداد المقدمات لتحويل هذه الطموحات الى واقع عملي، وبمقدار اعداد المقدمات تكون النتائج، ويكون لدينا نظام حكم يستقي شرعيته، ثم قدرته على العمل من قاعدة رصينة تكتفي ذاتياً في صناعة الأمل وفي مسيرة العمل؛ من مراحله الاولى، حيث التعلّم والتجربة ثم التطبيقات والانتاج.

وربما يسقط في روع البعض مخاوف الفشل من تحقيق أهداف مجنحة، نقول: انها مخاوف مبررة قطعاً بوجود اهداف مثالية لا وجود لها إلا في الخيال والاحلام، بينما لغة الواقع تتحدث معنا بعقلانية داعية الى التدرّج في مراقي النجاح في كل شيء، ولا داعي للعجلة والسرعة في الوصول الى ما يبهر البعض من مظاهر التقدم -الموديلات- في أنماط الحكم، وفي طريقة العمل والانتاج، وحتى طريقة الاستهلاك، بل وطريقة التفكير. فما فائدة شعب يمتلك كل شيء من أموال، وتقنيات متطورة، وطائرات، وطرق، وناطحات سحاب، ويعيش في الوقت نفسه الكآبة واليأس من الحياة الى درجة ان يروج بعض المثقفين في بلادنا للعبثية والانهزامية النفسية والعجز المطبق من حيث لا يشعرون.

اضف تعليق