علمت ولكن متأخرا ان بالسفر راحة للبال، وزيادة في العمر، ومعرفة بالناس واكتساب للثقافة، ولكن ما جدوى الثقافة في أواخر العمر، فما متاح لنا من بقاياه لا يكفي لنفع الناس، فنحن لا تنضج عندنا الخبرات والمعرفة والوعي الا في نهايات العمر، والمستفيدون منها قلائل، بينما الحياة تستوجب النضوج في ذروة الشباب...
سافر، سافر، سافر، عليك بالسفر وانت بهذا العمر، ففيه فوائد كثيرة لرجل مثلك أفنى حياته بالعمل، وأثقلت كواهله المسؤوليات، وحرم نفسه الملذات، وفكر نيابة عن الأبناء، لا يريد لحياتهم الانطلاق من الصفر، كما هي حياته، يوم لا جدار يستند اليه، ولا سقف يستظل به، امتطى قدميه مذ اختط شاربه، وعليك الآن بعد ان قارب عمرك السبعين ان تلتفت لنفسك التي نسيتها في لجة المشاغل، والحرص على ضمان المستقبل. هكذا قالت لي نفسي، وهي تتأمل روحها في لحظة تجلي.
حقا نسيت نفسي، ولم أعد كما كنت قادرا على حمل الأثقال، حتى ليس بمستطاعي السير سوى لمسافات قصيرة، وعندها تتعالى نبضات القلب، أتوقف لحظة لاسترجاع الأنفاس، بينما الشباب من حولي يتقافزون، فيعود بي شريط الذكريات، فمن علامات الكبر يا نفسي الانشغال بالذكريات، والتأسف على ما فات، وأكثر التأسف على نسيانك.
لقد تأخرت يا نفسي بنصيحتك، كان عليك قولها قبل هذا الوقت بعقود، ههههه، حتى لو قلتيها فما كان باليد حيلة، فالجيب خال، والوعي ضئيل، والركض مع الناس حثيث، خوف أن يسبقني الآخرون، وتلاحقني قهقهاتهم، ونظرات الشماتة، وعقد النقص التي أورثها لأبنائي، فلا أحد يعذر، فمن اتكل على غيره خسران، ومن لم يستيقظ مبكرا يبقى طوال زمانه حيران، ومن لا يشد حزامه شدا لا يحصد من دنياه سوى الفقر، وانت لا تريد لنفسك هذا الحال، وان ينتهي أبنائك لنفس المآل، وحينها لا تفكر بالسفر.
علمت ولكن متأخرا ان بالسفر راحة للبال، وزيادة في العمر، ومعرفة بالناس واكتساب للثقافة، ولكن ما جدوى الثقافة في أواخر العمر، فما متاح لنا من بقاياه لا يكفي لنفع الناس، فنحن لا تنضج عندنا الخبرات والمعرفة والوعي الا في نهايات العمر، والمستفيدون منها قلائل، بينما الحياة تستوجب النضوج في ذروة الشباب، ففيها تكون قادرا على العطاء، وتغمرك لذة نقلها للآخرين، وتشعرك ببهجة النجاح، وهذا ما يفترض أن تفعله المدرسة، فمنها وحدها نبلغ النضوج في ريعان الشباب، ولكن المدرسة أول ضحايا الخراب.
عذرا لم أعد قادرا على السفر، فالصحة لا تعينني، والأقدام عجزت عن حملي، وصار أنينها عاليا، وليس كما كانت تخفي أنينها خجلا بعد الارهاق، وأشعر بالدوران منذ الاستيقاظ، فأستريح نصف ساعة ريثما يرتب دماغي أمره وأستعيد توازني، وهكذا حال زوجتي التي تصغرني بالعمر عقدا، فمذ جمعنا سقف واحد، وهي تحمل من الأثقال والهموم أضعافا، كناعور الماء دائمة الدوران بين الوظيفة والبيت، لا ندري لِمَ لم نفكر بان قواريرنا يعملن بثلاث وظائف، كل منها أثقل من الأخرى؟
المنزل بكل ما فيه من أحمال، والوظيفة وما فيها من التزامات، وتعب تربية الأطفال، ومع كل ذلك نريدها بهيجة، مليحة، تعلو محياها الابتسامة، ونتذمر من شكواها، ونلومها على تقصيرها، ونحاسبها على أخطائها، فهي تستحق بنظري راتبين وليس واحدا، ومن الظلم مساواتها بالرجل في احالتها على التقاعد من الوظيفة، مع ان عملها المنزلي لا تقاعد فيه الا بعد ان تنخر أنياب المرض الباشطة جسدها النحيل، لذلك أظن ان العدل والانصاف يستوجب احالتها على التقاعد في منتصف الأربعين من العمر، والرجل قبل منتصف الخمسين. اعطونا فرصة للاستمتاع بما بقي من أعمارنا، قد يتقاعس الابناء عن حملنا، وتركنا حبيسي الجدران، او يبررون لأنفسهم والآخرين عدم قدرتنا على المسير، فسنوات ما بعد التقاعد الذي سننتوه لا متعة فيه أبدا، دعونا نتمتع ونحن أصحاء، أليس هذا من الرفاهية التي تدعون، فلا متعة مع الأنين، وليس لك من ماضيك سوى الحنين.
اضف تعليق