انت ترى وعلى مدى عقدين ان الوجوه نفسها في السياسة وفي الادارة، وان حالنا أصبح يُرثى له، حتى صارت الحرائق تلتهمنا قبل الرصاص، وأفرغوا بلادنا من قوتها، فما عدنا بقادرين على حماية سمائنا التي تمرح وتسرح فيها طائرات الذين لا يرتاح لهم بال قبل تقسيمنا الى دويلات متناحرة. الذي بيدنا ربع حرية والأرباع الثلاثة المتبقية حبيسة الورق...

اما قبل: لابد من الاقرار بعدم جواز المقارنة في مجال حرية التعبير عن الرأي بين الأمس الذي مضى عليه أكثر من عقدين واليوم، فبالأمس الذي يصفه البعض (بالجميل) كنا نتحسب حتى من أنفسنا أن نقع في خطأ فندفع ثمنه باهظا، وتضيق دائرة الحرية للذين امتهنوا الكتابة الصحفية مع كل مسؤول أعلى حتى لا يبقى منها سوى بقدر ثقب ابرة، ولأن الجرأة محفوفة بالمخاطر تبرز الى الواجهة الرقابة الذاتية فنسد ثقب الابرة اذا كان في النية الحديث بالسياسة وانتقاد الكبار، (ويا دار مدخلك شر) كما يقول المصريون . لكن والحق يُقال ان ثقب الابرة يتسع كثيرا اذا ما أريد الحديث في القضايا الاجتماعية والثقافية. في زمن الحصار صار تهريب النحاس والفافون ظاهرة رائجة، مع ان الحكومة اتخذت من الاجراءات أشدها للحد من تأثيرها في اقتصاد منهك، لكن الفساد الخفي ومن مسؤولين كبار أفرغ تلك الاجراءات من محتواها، فالجهات المعنية الدنيا تمسك بالمهربين وتسلمهم للجهات العليا، لكن يفاجأ الممسكون بخروج المهرب بعد يومين او ثلاثة ليمر بوجهه ذي العينين اللامعتين مع شاحنته من أمام أنظارهم.

وحول هذه الظاهرة قررت كتابة تحقيق صحفي لجريدتي (الاتحاد) الاسبوعية، فالتقيت بأحد المحافظين ولاحقا بمسؤول حزبي كبير، فاقترح علّي الابتعاد عن موضوع التهريب والكتابة عن العادات والتقاليد الاجتماعية مع دعوة من مدير أمن المحافظة الذي كان حاضرا بالتفضل لشرب الشاي معه في دائرته، ومن سياق الكلام فهمت ان العبارة تضمر تهديدا، ومع ذلك كتبت التحقيق بجرأة غير محسوبة بخاصة بعد أن استفزني المسؤول الحزبي لامتناعه عن التصريح، واتهامي بعدم الالتزام بالمواعيد مع حرصي الشديد عليها ، لكنه تهرب مني مرارا بإبلاغ الاستعلامات بأنه غير موجود.

 وبعد النشر نصحني بعض المسؤولين الشرفاء والأصدقاء الأوفياء بالاختفاء عن الأنظار لبضعة أيام ريثما تهدأ الأمور، الحكاية طويلة ولا أريد أن اشغلكم بها، ما أريد قوله: ان اطار حرية الأمس: قل ما تشاء ولا تقترب من السياسة ومن يديرها، وهو واحد وليس هناك غيره ، قل ما تريد ولا تنتقد الحكومة التي تسمى في وقتها القيادة، ومع ذلك لم نقل ما نشاء، وكل ما قيل لا يقدم ولا يؤخر، السفينة تمضي وما علينا سوى تلميع كلام الربان.

اما بعد: فصار للسفينة أكثر من ربان، وكلهم مقدسون، ولا يمكنك انتقاد أحدهم باستثناء المكلف رسميا بقيادتها، بصريح العبارة يمكننا نحن الاعلاميين انتقاد اجراءات الحكومة وبيان مواضع فشلها وفساد بعض مسؤوليها وفضح تلكؤات دوائرها من دون أن ينتابنا خوف او تردد ، لكن من المتعذر علينا المساس من بعيد او قريب باولئك الذين يتحكمون بالسفينة غالبا من تحت الطاولة وأحيانا من فوقها، لأنهم يظنون بأنفسهم منزهين عن الخطأ، وانهم مقدسون ولا يجوز ابداء الرأي فيهم، لأنك تعرف مسبقا ان الجماعة صدورهم ضيقة ولا يتحملون من يؤشر أخطائهم او يبدي رأيا في سياستهم ومخاطرها على الدولة، مع ان الكل يرفع شعار الحرية، ودائما ما يؤكدون انها مكفولة بحكم الدستور، وكثيرا ما يعيروننا بأننا لولاهم ما نعمنا بهذا الفضاء المفتوح من الحرية، وبكفاحهم تحققت لنا الديمقراطية التي أقل ما يقال عنها انها صارت بوابة مفتوحة للمغامرين والمقاولين والرعاة الراغبين بالوصول للكعكة وليس لانقاذ الوطن، ويسألونك: اليس بمقدورك الادلاء بصوتك في الانتخابات الآن؟

وانت ترى وعلى مدى عقدين ان الوجوه نفسها في السياسة وفي الادارة، وان حالنا أصبح يُرثى له، حتى صارت الحرائق تلتهمنا قبل الرصاص، وأفرغوا بلادنا من قوتها، فما عدنا بقادرين على حماية سمائنا التي تمرح وتسرح فيها طائرات الذين لا يرتاح لهم بال قبل تقسيمنا الى دويلات متناحرة. الذي بيدنا ربع حرية والأرباع الثلاثة المتبقية حبيسة الورق، لا نستطيع قول كل ما في قلوبنا، ولولا الكلام المجازي لمتنا كمدا.

اضف تعليق