على حكومتنا أن تأخذ بنظر الاعتبار عند تبنيها لاستراتيجية الانتقال إلى اقتصاد السوق عدم تقليد التجارب العالمية حرفيًا؛ لأن كل بلد تختلف ظروفه عن البلد الآخر. فيجب وضع قالب جديد يلائم أوضاع البلد من جميع النواحي. فمثلاً، على سبيل المثال، إن إحدى مبادئ اقتصاد السوق هو حرية الأسعار وعدم التحكم بها...

لقد تبنت الحكومات السابقة هدفًا رئيسيًا ضمن أهداف استراتيجية الأمن الوطني في مجال الاقتصاد العراقي وهو حسم توجه الاقتصاد العراقي نحو اقتصاد السوق وتنويعه وتخلي الدولة تدريجيًا عن النشاطات الاقتصادية. هنا، لا بد لنا من الوقوف عند هذا الهدف الهام، وهو لا يتجاوز السطر الواحد، ولكن تطبيقه يحتاج إلى إجراءات كثيرة وعلى كافة المستويات لتحقيق هذا الهدف بشكل سليم. 

فكما هو معروف، فإن اقتصاد السوق، أو الاقتصاد الحر، ويُسمى كذلك بـ"الاقتصاد الرأسمالي"، هو النظام الاقتصادي لليبرالية الكلاسيكية. وفكرة الاقتصاد الحر هي عدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية وترك السوق يضبط نفسه بنفسه. يعبّر عنه بعض الخبراء الاقتصاديين بأنه اقتصاد العرض والطلب والمنافسة الحرة وتحرير الأسعار من أي قيد، عدا ما تفرضه المنافسة الحرة غير الاحتكارية. ويعتمد بشكل أساسي على الملكية الخاصة للأفراد والمؤسسات ورأس المال.

تجارب عالمية

على حكومتنا أن تأخذ بنظر الاعتبار عند تبنيها لاستراتيجية الانتقال إلى اقتصاد السوق عدم تقليد التجارب العالمية حرفيًا؛ لأن كل بلد تختلف ظروفه عن البلد الآخر. فيجب وضع قالب جديد يلائم أوضاع البلد من جميع النواحي. فمثلاً، على سبيل المثال، إن إحدى مبادئ اقتصاد السوق هو حرية الأسعار وعدم التحكم بها. وهذا المبدأ يجب عدم تطبيقه حرفيًا، خاصة ونحن لا نزال في المراحل الأولى من عملية الانتقال. لأن الظروف الاقتصادية الحرجة للبلد وحالة المواطن العراقي بشكل عام، وانخفاض قدرته الشرائية، تتطلب أن تقوم الحكومة بوضع رقابة على الأسعار، خاصة للسلع والمواد الضرورية في حياة المواطن مثل المواد الغذائية والطبية، حتى لا يتحمل المواطن الانفلات الذي قد يحدث في الأسعار وارتفاعها بشكل كبير، ما يحمله أعباء إضافية تضاف إلى أعبائه الكبيرة التي يعاني منها.

والأمر الآخر، والذي يعتبر بمثابة الحجر الأساس لنجاح اقتصاد السوق، هو دعم القطاع الخاص المحلي واعتباره شريكًا حقيقيًا وليس ندًا للقطاع العام. وهذا لن يحصل إلا باتخاذ إجراءات حقيقية لدعمه، وذلك بتقديم كل أنواع التسهيلات له ليمارس عمله بشكل سليم ويأخذ دوره في تنمية الاقتصاد المحلي وزيادة موارد الدولة. وهذه التسهيلات كثيرة، فمنها تسهيل الإجراءات الإدارية وكسر الروتين الكبير الذي يوجد في مؤسسات الدولة التي لها تماس مباشر مع عمل شركات القطاع الخاص، ومنها دائرة مسجل الشركات، والهيئة العامة للضرائب، ووزارة التخطيط، ودوائر الكمارك، وغرف التجارة في بغداد والمحافظات، ومجالس المحافظات. 

لأن الذي يطلع على الإجراءات المتبعة حاليًا في هذه المؤسسات يجد عراقيل كبيرة ومعقدة توضع أمام شركات القطاع الخاص، تؤخر أعمالها بشكل كبير، علاوة على الرسوم التي تستوفى من الشركات والتي تتصاعد كل فترة إلى أرقام كبيرة بالرغم من الركود الذي يعمّ السوق بشكل عام، مما أجبر أصحاب الشركات على تقليص أعداد كبيرة من منتسبيها لعدم تمكنهم من تأمين رواتبهم. لذا، يتوجب إصدار التوجيهات لتلك المؤسسات بـإعادة النظر بتلك الإجراءات الروتينية المعقدة وتسهيل إنجاز معاملات شركات القطاع الخاص وإعادة النظر بالرسوم الكبيرة المفروضة عليها. 

وكذلك يجب دعم القطاع الخاص بمنحه القروض المالية الميسرة من قبل المصارف الحكومية والأهلية، وتشديد الرقابة على عملية منح تلك القروض لمنع حالات الفساد والوسطاء، والضرب بيد من حديد على من يمارس تلك الحالات.

ضمان اجتماعي

وهناك أمر آخر لا يقل أهمية عما تقدم، وهو تفعيل قانون الضمان الاجتماعي للقطاع الخاص. حيث أن هذا القانون موجود على أرض الواقع ولم يُلغَ، ولكنه يُطبق بشكل روتيني وفيه تحايل كبير. والسبب أن أصحاب الشركات والمشاريع يتهربون من تسجيل منتسبيهم في الضمان الاجتماعي؛ لأن القانون يفرض عليهم دفع نسبة 12% من راتب كل منتسب شهريًا، تضاف إلى نسبة الـ5% التي تستقطع من راتب الموظف نفسه، فتصبح النسبة 17% تودع في صندوق الضمان الاجتماعي. ويرى أصحاب الشركات أن هذه النسبة كبيرة وتثقل كاهلهم، لذا يتحايلون على القانون بشكلين:

1. الشكل الأول: عدم تسجيل منتسبيهم في الضمان، ويكتفون بعدد قليل جدًا لا يتجاوز الثلاثة أو الأربعة، وحسب الحد الأدنى المسموح به، ويحرمون الباقي من الضمان.

2. الشكل الثاني: يقومون بتثبيت رواتب هؤلاء الذين يتم تسجيلهم بأرقام رمزية وغير حقيقية، وحسب الحد الأدنى المسموح به، وهي لا تتجاوز 300 ألف دينار.

بالنتيجة، سيحرم معظم العاملين في القطاع الخاص من الضمان والتقاعد، وبالتالي ستبقى أنظارهم موجهة صوب القطاع العام الذي يجدون فيه ملاذهم في الضمان والتقاعد لهم ولعوائلهم. لذا، يجب أن تنتبه الحكومة وتعيد النظر بشكل كامل بقانون الضمان الاجتماعي للقطاع الخاص وتقلل النسب المفروضة على أصحاب الشركات.

وبنفس الوقت، تضع ضوابط صارمة تلزم صاحب الشركة وصاحب المشروع أن يقوم بتسجيل جميع العاملين لديه في دائرة الضمان الاجتماعي وبرواتبهم الحقيقية. وإذا ما تحقق ذلك بشكل صحيح على أرض الواقع، فإن أنظار شبابنا ستتوجه بشكل كامل إلى القطاع الخاص، وسنخفف الضغط على القطاع العام، وبالتالي سنقلل من حجم معدلات البطالة المرتفعة والإنفاق الحكومي بشكل كبير.

اضف تعليق