إن عدم الغدر منقبة مهمة في الإسلام، وهذه مسؤولية كبيرة تقع علينا من دون استثناء، حتى يعرف الناس كلهم، ما هو الفرق بين الإسلام وبين من حاول تحريف الإسلام، بين الإمام الحسين وبين الذين جعلوا من الغدر وسيلة لتحقيق مآربهم الدنيوية الهزيلة...

(الغدر حالة خبيثة، وخصلة سيّئة، حتى في الحرب)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

في العودة إلى سيرة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، نجد أنها تخطو بدقة على مسار سيرتيّ جده رسول الله صلى الله عليه وآله، وسيرة أبيه الإمام علي عليه السلام، فقد تربّى في حاضنتين عظيمتين ونهل من الأخلاق والعلم والتربية النبوية والإمامية، ما لم يحصل عليه غير أئمة أهل البيت عليهم السلام، ولهذا لم يتعامل الإمام الحسين بخصلة الغدر حتى مع ألدّ أعدائه.

فالغدر حالة تنمّ عن فقدان الأخلاق لمن يقوم بها، كما أنها تدل على خبث حاملها، ولهذا نأى الرسول صلى الله عليه وآله بنفسه وفكره وسلوكه عنها حتى مع أعدائه وكذلك فعل الإمام علي عليه السلام ومن بعده أولاده وأحفاده من أئمة أهل البيت، وحتى لو يكون الانتصار متوقّفا على استخدام الغدر بالعدو، فلا يجب أن يتحقق هذا النصر بوسيلة الغدر.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، يقول في محاضرته التي وردت ضمن سلسلة نبراس المعرفة والموسومة بـ (لا غدر في الإسلام): 

(الغدر حالة خبيثة، وخصلة سيّئة، حتى في الحرب، وحتى في وقت يتوقّف الانتصار عليه. فالانتصار لا يكون بالغدر، ولا يكون بالظلم الذي هو غدر أيضاً، بأن تعطي الأمان لشخص ثم لا تعمل بالأمان).

هذه هي القاعدة الأخلاقية التي سعى الرسول صلى الله عليه وآله كي يقوم بترسيخها عند الأقربين أولا ثم لدى الأمة الإسلامية كلها، فلا يجوز أن يسخَّر الغدر بالعدو كي نحقق الانتصار عليه، وانتقلت هذه الخصيصة إلى الإمام علي عليه السلام، فتجنب الغدر بالآخر في الحرب أو في سواها، ونقلها إلى الأئمة من بعده.

فمن المحال أن يتم إعطاء الأمان لشخص ما، ثم يتم الغدر به، هذا مرفوض في حكومة وسلوك الرسول الأكرم، وسار على هذه السيرة ابن عمه أمير المؤمنين عليه السلام، وكذا فعل الإمام الحسين عليه السلام الذي أعلن بصوت واثق وعالٍ بأنه في خروجه من الحجاز إلى كربلاء، إنما يريد أن يحيي تلكما السيرتين العظيمتين.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(لقد بنيت الحكومة في سيرة رسول الله وسيرة أمير المؤمنين صلوات الله عليهما وآلهما على ترك الغدر. وحتى ترك الغدر في الحرب، وحتى إذا توقّف الانتصار عليه. ويعني أنّه ليس في سيرتهما أن يعطوا الأمان لشخص ولا يعلنوا الحرب معه ثم يغدروا به. وقال الإمام الحسين صلوات الله عليه أنّه يريد أن يحيي هذه السيرة).

حقائق وشواهد التاريخ الصادقة

وعندما نَسأل أو نُسأل أين نجد شيمة الغدر، ومن الذي اعتمدها في سلوكه وحروبه، فإن الجواب يأتينا من حقائق وشواهد التاريخ الصادقة، فالغدر موجود عند الأمويين، وهم الذين مارسوه واعتمدوه في تعاملهم مع الآخرين، لأنهم يريدون الغَلَبة بغض النظر عن الأسلوب والوسائل التي تحقق لهم ذلك، فالمهم لديهم النتيجة الغالبة، ولا علاقة لهم بالكيفية التي تحققت بها، ولهذا كان الغدر عنوانا عريضا لهؤلاء الحكام المارقين.

ومن يتصفّح تأريخهم، سوف يجد أنه مليء بهذه الخصلة المزرية المسيئة، ونعني بها الغدر، وهي تليق بمعاوية ومن لفَّ لفّه، كونهم تقمصوا أدوار الشرّ والغدر، وأغرتهم الدنيا فقاتلوا من أجلها، وألحقوا الظلم بالناس، وحكموهم بالفسق والفجور والاستبداد، وكان الغدر وسيلتهم المقرَّبة والمحببة لأنفسهم كي النصر، وهو ليس بنصرٍ في حقيقة الأمر.

لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله: 

(إنّ كل ما نجده من الغدر فهو عند معاوية ويزيد وبني أميّة وبني مروان وبني العباس وأمثالهم، الذين شوّهوا سمعة الإسلام، أمس واليوم، في العالم كلّه. فتاريخهم مليء بالغدر). 

ولكي يُظهِر الإمام الحسين تلك الأهداف العظيمة التي خطط لها في ملحمة عاشوراء والطف، فقد أعلنها في قمة الوضوح، عندما قال على الملأ، إنه أخذ عن جده الرسول صلى الله عليه وآله، وعن أبيه أمير المؤمنين رفضهما للغدر، وقد نشأ وترعرع في ربوع هذه الدوحة المحمدية العلوية التي اعتمد الأخلاق الفاضلة، وآمنت بقواعد الخير والسلام والالتزام.

لذا من الواجب علينا كمسلمين من أمة محمد، وعلي وأئمة أهل البيت الأطهار عليهم السلام، أن نعرّف العالم كله، بأن الإسلام يرفض الغدر في مختلف شؤون الحياة، في سلمها وفي حربها، وهذا هو الانتصار الأخلاقي العظيم الذي يجب أن تعرفه البشرية كلها عما يريده الإسلام وما يتّصف به المسلمون.

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يقول: 

لقد (أعلن الإمام الحسين صلوات الله عليه في وصيّته بأنّ ما يريده هو أن يسير على ما سار عليه رسول الله صلى الله عليه وآله، وما سار عليه أبوه الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه. ولذا علينا نحن المسلمين أن نعلن للعالم المناقبيات في الإسلام ومنها المنقبة المهمّة هذه بأنّ الغدر مرفوض في الإسلام).

مسؤولية العلماء والمثقفين

وشتان بين من يرفض الغدر، وبين من يلجأ إليه ويستخدمه كي يحقق النصر، فالإمام الحسين عليه السلام رفض الغدر، وتعلّم ذلك من جده (محمد) وأبيه (علي) صلوات الله عليهما، وأراد أن يُظهره ويستخدمه في حياته، وفعل ذلك، ونأى بنفسه عن الغدر، وزرع هذه السمة الأخلاقية عند مؤيديه ومناصريه، وهذه إحدى مبادئ الفكر الحسيني وثقافة عاشوراء التي يجب أن يفهمها كل حسينيّ مؤمن وكل مسلم يصطف مع الحق، وكل إنسان عادل وشريف.

لقد غدر معاوية بالإمام علي عليه السلام، وغدر يزيد بالحسين عليه السلام، وبمسلم بن عقيل عليه السلام، فالغدر متلازمة سلوكية انتهجها حكام بنو أمية، وهذا هو ديدنهم الذي يليق بهم، كما تدل على ذلك حقائق التاريخ الموثوقة، فهل يستوي الغدر بنقيضه؟؟

لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي دام ظله قائلا:

(وهكذا صنع الأمويون في قصّة عاشوراء بكربلاء المقدّسة مع الإمام الحسين صلوات الله عليه وأصحابه سلام الله عليهم، وكذلك صنعوا مع مسلم بن عقيل عليه السلام في الكوفة، حيث لما رأوا أنّهم لا يستطيعون القبض عليه، غدروا به ثم قبضوا عليه، كما يذكر التاريخ).

في المقابل لابد أن نوضّح للعالم أجمع، بأن عدم الغدر منقبة مهمة في الإسلام، وهذه مسؤولية كبيرة تقع علينا من دون استثناء، حتى يعرف الناس كلهم، ما هو الفرق بين الإسلام وبين من حاول تحريف الإسلام، بين الإمام الحسين وبين الذين جعلوا من الغدر وسيلة لتحقيق مآربهم الدنيوية الهزيلة.

وهذه المسؤولية في إظهار مبادئ الإسلام ورفضه للغدر، تقع على الجميع كما ذكرنا، ولكن العلماء والمثقفين والمعلمين عليهم المسؤولية الأكبر، كونهم الأقدر من غيرهم على توصيل ونشر هذا الانتصار الأخلاقي على الغدر.

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: 

(علينا أن نعلن للعالم ونوصل إليه هذه الخصلة - عدم الغدر- والمنقبة المهمّة في الإسلام، ونعرّفها للبشر كلّهم. وهذه مسؤولية الجميع، بالخصوص أهل الفكر والمفكّرون والعلماء في الحوزات العلمية وفي الجامعات، وخصوصاً الشباب منهم).

لذا فإن عاشوراء، وملحمة الطف، والفكر الحسيني روافد متلازمة مع بعضا، كلها تصب في صالح الإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء، وتسعى إلى نشر الأخلاق الرفيعة السليمة بين البشر، وتعري الأساليب الرخيصة التي يعتمد عليها المهزومون أخلاقيا وفكريا، فما أروع الإنسان الذي يرفض الغدر، وما أجمل العالم الذي يخلو من الغدر والسوء، هذا ما أراد الإمام الحسين عليه السلام وهو يحقق ذلك النصر الأخلاقي الحاسم على الغدر.  

اضف تعليق