مدينة كربلاء التراثية، فهي تضيف الى خصيصتها النوعية، انفتاحها على أهل العالم يدخلونها بالمجان، ويتطلعون الى طبيعة هذا الإرث الحضاري العجيب النابض بالحياة منذ أول يوم دفن فيه الامام الحسين، عليه السلام؛ إنسان ميّت يهب الحياة للأحياء، من أفراد وشعوب! فياله من إرث لا يُقدر بثمن مادي ولا معنوي...

الشعوب التقدمية في العالم تحتفي برموزها الحضارية كناية عن السبق في المنجز البشري في مجال العلم والأدب والثقافة، كأن تكون هذه الرموز؛ فلاسفة، أو أدباء، أو علماء، كما الملاحظ في روسيا الأدبية، و اوربا الفلسفية، واذا كان الرمز على شكل مدينة متكاملة فذاك من أعلى المفاخر، كما تختصّ به مدن في اوربا مثل العاصمة الايطالية روما، والقدس المحتلة، ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وحتى المدن المندثرة في الشرق، مثل بابل -التاريخية-، وبرسبوليس عاصمة الدولة الهخامنشية في ايران، وبمن بعدها المدن الظاهرة في أزمان متأخرة حضارياً، وهي تفخر بمعالمها الأثرية مثل الجسور، والقصور، والمدارس، والمساجد، والمعابد، وايضاً؛ المؤلفات القيّمة، و رموزها الثقافية مثل الشعراء والعلماء، كل هذه تُعد إرثاً حضارياً تفخر به أمام أجيالها، وايضاً؛ امام الزائرين من ابناء الشعوب الاخرى. 

ومدينة كربلاء ليست بعيدة عن مجرى الحضارة الانسانية، انما خصوصيتها عن سائر المدن التاريخية في إن اسهامها الحضاري ليس في المعمارية المذهلة، كما في طاق كسرى، او في المنحوتات البارعة مثل؛ الثور المجنّح، وأسد بابل، مما تركته أيدي بشرية مُبدعة، كما أبدع المعماريون المصريون القدماء، الاهرامات، إنما العامل البشري هو بنفسه شكل لوحة حضارية استثنائية بدمه!

انه لأمر محيّر حقاً، استوقف الفلاسفة والعلماء قديماً، وبعضهم أخذوا اسئلتهم دون جواب الى لحودهم، فيما بقي آخرون حتى اليوم يتأملون ويبحثون في السبب الداعي لأن يسهم انسان بتقويم حضارة آيلة للسقوط من خلال التضحية بدمه ودماء اصحاب وأهل بيته في معركة غير متكافئة، ظاهرها سياسي، واجتماعي، وباطنها انساني وحضاري عميق، جعل من مقتله وخسارته الحرب، انتصاراً، بل ونموذجاً لمن يريد الانتصار الحقيقي ان يحذو حذوه! 

لنأت سريعاً الى الاضاءات الثقافية التي استخرجها الامام الحسين من تيار الحضارة الاسلامية المنهدر من المبعث النبوي الشريف، مثل؛ التضحية من أجل أشياء يكسبها الآخرون من بعده، والعمل الذاتي للتغيير والإصلاح، وإثارة دفائن العقول لاختيار الحق والصواب، وإن كلف هذا الاصطدام بالسلطة الحاكمة وسياساتها القمعية، وايضاً؛ الحرص على نقاوة الضمير والوجدان والمشاعر الانسانية النبيلة.

هذه المنظومة الثقافية للنهضة الحسينية "تمثل جذوة متقدة في حضارتنا الاسلامية"، كما عبر عنه الخطيب الراحل الشيخ احمد الوائلي في إحدى محاضراته، بما يعني أنها تمثل استحقاق يعبر عن واقع على الأرض وحقائق تاريخية يقرّ بها غير المسلم قبل المسلم ومن يعد نفسه "شيعياً"، وبما أن هذه المنظومة الثقافية قائمة اليوم على أرض كربلاء، فمن الطبيعي ان تكتسب هذه المدينة احتراماً لأن على ترابها اختطت سطور هذه المنظومة خلال واقعة عسكرية واجتماعية ونفسية لن يشهد مثلها التاريخ البشري ابداً.

ولا يهم الشعوب قدم وحداثة الأثر الموروث، فربما بعضها يعود الى الفي عام مثل الكولوسيوم الايطالي (المسرح العملاق)، او بعضها يعود الى القرن الثاني عشر مثل كنيسة نوتردام، ومن بعدها برج ايفل في نهايات القرن التاسع عشر في فرنسا، والجميل أن بعض الدول العربية راحت تنبش في مخازن تاريخها الحديث والقديم لخلق تراث في جدران وأبواب، او مقتنيات لزعمائها من سيوف وبنادق، وحتى أثاث منزلي ليكون من مكونات مدينة تراثية، ليس فقط لها مردود مالي من السائحين، وإنما المردود المعنوي الأهم لبعث الشعور الايجابي في نفوس اجيالها بأنهم ليسوا مقطوعي النسب مع التاريخ، بل لهم عمق تاريخي يعبر عن هويتهم الثقافية.

أما مدينة كربلاء التراثية، فهي تضيف الى خصيصتها النوعية، انفتاحها على أهل العالم يدخلونها بالمجان، ويتطلعون الى طبيعة هذا الإرث الحضاري العجيب النابض بالحياة منذ أول يوم دفن فيه الامام الحسين، عليه السلام؛ إنسان ميّت يهب الحياة للأحياء، من أفراد وشعوب! فياله من إرث لا يُقدر بثمن مادي ولا معنوي يتحسّر عليه جميع سكان العالم، ويغبطون الساكنين على هذه الأرض حظوتهم رعاية هذه المدينة، كما هم القيميون على المتاحف والمعالم الأثرية النادرة، فهم أمناء من نوع خاص على إرث حضاري يعود لأمة وأجيال، ولا يفرطون ممن يروم العبث به عن قصد او دون قصد. 

اضف تعليق