كان سماحة السيد الشيرازي يهدي ضيوفه الابتسامة المشرقة، وفي نفس الوقت يغذيهم بالأفكار القوية والمواقف المتشددة والمتنمّرة في ذات الله، ولا أنسى ردّه السريع والمفاجئ على أحد الأخوة يشتكي عدم إطلاق الحريات من قبل النظام الحاكم وأنهم "لايسمحون لنا بالكتابة"، فقال له بحزم: "أنت اكتب وينشرون لك"، إنها الطريقة الذكية والعملية لمواجهة الانحراف بهدف الإصلاح...
{ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً}.
صدق الله العلي العظيم
المصلحون والمؤسسون والرجال الناجحون يخلفون بعد موتهم آثاراً تعكس شخصياتهم، كأن تكون مؤلفات، او مؤسسات، او مواقف، او افكار، كلها تملأ الساحة الفكرية والثقافية والاجتماعية، يتداولها الناس المحبون، وهو أمرٌ حسنٌ، الحُسن الآخر في معرفة كُنه شخصياتهم، وفلسفة حياتهم التي كانت قاعدة لتلك الافكار والمواقف والاعمال، مثلاً؛ هنالك حالات نفسية خاصة مثل "الانفعالية"، أو نقيضها، أو "الانطوائية"، او نقيضها.
والمرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي الذي نعيش هذه الايام ذكرى وفاته في أيام عيد الفطر السعيد عام 2001 للميلاد، هو أحد أولئك الرجال الذين نحتاج معرفة دقيقة وكاملة لشخصيتهم حتى يكون فهمنا لافكاره ومواقفه بشكل أدق وأعمق، ليس للمقربين والمحبين وحسب، وإنما لجميع افراد الأمة ممن تهمه تلك الافكار النهضوية والإصلاحية.
لا تأخذه في الحق لومة لائم
السمة الأبرز في شخصية المرجع الراحل؛ تمسكه بالحق كمعيار لأعماله وافكاره ومشاريعه، أما ردود الفعل، والانعكاسات في الواقع الاجتماعي فيتركه لاصحابه، لا يخوض فيه، ولا يشغل باله ووقته في الردّ إلا بمقدار التوضيح وإلقاء الحجة فقط، وكان مصداق القول: "قول الحق لم يدع لي صديقاً" المنسوب للصحابي الجليل؛ أبي ذر الغفاري، فقد عرف المرجع الراحل الحقّ، وعرف أهله، فتمسّك بهم، وكان النموذج في الاقتداء برسول الله، والأئمة المعصومين في منهج حياتهم.
له الفضل في تأسيس أول حركة داخل المجتمع تعمل لنشر الوعي والثقافة الاسلامية تحت لواء المرجعية الدينية، فكانت البداية في "الهيئات التي تعمل لصالح الدين والدنيا، مثلاً؛ هيأة لتزويج العزاب، وهيأة للتبليغ السيّار في مختلف البلاد والقرى، وهيأة لإدارة المستوصف الصحي، وهيأة لتوزيع الكتب الى مختلف بلاد العالم، وتسمى برابطة النشر الاسلامي"، ويتحدث سماحته في كتابه "عشت في كربلاء"، عن وجود حوالي مائة هيئة لها أسماء واختصاصات، وأعضاء يصل عدد بعضها الى تسعمائة شاب، كما يشير الى الهيئات الحسينية المعروفة بنشاطها وأعمالها.
ومن ثم الارتقاء الى المرتبة الأعلى في تنظيم عمل هذه الحركة على شكل خلايا سرية في بداية الأمر في بدايات الستينات من القرن الماضي، تحمل فكر النهضة والتغيير والإصلاح الجذري في المجتمع والأمة، وليكون سماحته الرائد في تأسيس "حركة اسلامية" ذات قواعد دينية، و رؤى إصلاحية وحضارية.
هذه الخطوة الرائدة كلفته الكثير من التشكيك والتجديف والتسقيط في أجواء مشحونة بالنشاط السياسي في العراق آنذاك، ذو الطموحات العالية باتجاه الحكم والهيمنة، إذ لم يكن معهوداً تأسيس حركة منظمة وسط المجتمع دون إطار سياسي، والأنكى من هذا بالنسبة للآخرين؛ ارتكازها على المشروعية الدينية لا الايديولوجية، فكانت الشعارات رسالية –سماوية، والأهداف إنسانية، ليكون الامتداد الطبيعي لرسالة الإسلام، وللرسالات السماوية في أن {يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، و{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ}. و"ليثيروا دفائن العقول".
قول الحق رافق حياته مثل ظله، لاسيما اذا تعلق الأمر بالدماء ومصير الأمة ومستقبلها، ومن أبرز قول حق له؛ موقفه من الحرب العراقية- الايرانية التي دامت ثمان سنوات عجاف، أراقت دماء حوالي مليوني انسان، وأهدرت قدرات وثروات من بلدين هما الأغنى في العالم، بما لم يشهده العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فكان رأيه وقف إطلاق النار من موقع القوة عام 1982، بعد تحرير كافة الاراضي الايرانية من احتلال الجيش العراقي آنذاك، وفرض شروط تعيد الحقوق والكرامة للبلد المعتدى عليه، بيد أن الرأي الآخر لم يكن كذلك بناءً على اجتهادات ورؤى تختص بأصحابها.
هذه المواقف كانت تترجم عند الطرف المقابل على أنها ذات منطلقات سياسية، ونوايا وأهداف ترنو الى الحكم والسلطة، بينما كان المرجع الراحل يؤكد في أحاديثه ومؤلفاته على القواعد الدينية لهذه المواقف، وأنه لم يأت بشيء من بناة أفكاره، عندما كان يتحدث عن السلام والحرية والمساواة لبناء الانسان والمجتمع، كما فعل رسول الله ومن بعده أمير المؤمنين والأئمة من بعده، صلوات الله عليهم. ولكن! تبقى المشكلة عصيّة على الحل في الفهم خارج الصورة الذهنية للحكم والسلطة، كما نلاحظ فهم الانظمة السياسية على طول الخط لأي حركة اعتراض جماهيرية على أنها "بدوافع سياسية"، حتى وإن كان الاعتراض لتوفير الكهرباء والماء للنساء والأطفال داخل البيوت لانقاذهم من الصيف اللاهب، أو توفير العلاج لانقاذ المرضى من الموت.
الحزم والثبات على المبادئ
اذكر شاهداً واحداً على تمسك المرجع الديني الراحل بمبدأ مواجهة الطغيان والديكتاتورية مهما كلف الثمن، في حديث أدلى به خلال استقباله جمعاً من طلبة العلوم الدينية، وكنت أحد الحاضرين، وكان يتحدث عما يلاقيه المجاهدون في سجون الطغاة من تعذيب لانتزاع الاعتراف والكشف عن أسرار العمل التنظيمي، او لثنيهم عن المواصلة، وقال بالحرف الواحد: "ربما يأتي يوم عليكم تتعرضون للاعتقال ويأتون بشخص يشبهني ويقولون لكم: هذا السيد محمد الشيرازي يأمركم بالتخلّي عن عملكم الرسالي فلا تصدقوه".
ثمة مبادئ لم يحد عنها المرجع الشيرازي طيلة حياته، بل كانت حياته كلها قائمة عليها على طول الخط، مثل السلم، والهجرة، والعمل، والتبليغ والإرشاد، والأخلاق، وهو يعرف حق المعرفة أن ثمة مبادئ تعارض السلم، والهجرة، والعمل، والإرشاد، والأخلاق وغيرها مما يكلف الكثير من الجهد، بينما الحرب، والغدر، والكذب، و سياسة الأمر الواقع، لا تكلف اصحابها الكثير سوى بذل بعض الاموال لشراء الذمم والإرادات والعقول و زجّها في دهاليز السياسة والمصالح الاقتصادية العالمية.
كان سماحة السيد الشيرازي يهدي ضيوفه الابتسامة المشرقة، وفي نفس الوقت يغذيهم بالافكار القوية والمواقف المتشددة والمتنمّرة في ذات الله، ولا أنسى ردّه السريع والمفاجئ على أحد الأخوة يشتكي عدم إطلاق الحريات من قبل النظام الحاكم وأنهم "لايسمحون لنا بالكتابة"، فقال له بحزم: "أنت اكتب وينشرون لك"، إنها الطريقة الذكية والعملية لمواجهة الانحراف بهدف الإصلاح والتغيير، لا انتظار الآخرين يفرشون الارض بالورود ليمشي عليه المثقف والمفكر و يطرح مواقفه و رؤاه للناس.
وفي الختام أجدني عاجزاً عن الإلمام بهذه الشخصية الفذّة وأنا لم أعاصره سوى فترة قصيرة جداً قياساً برجال سبقوني بالإيمان والعمل الرسالي، وأقطع أنهم أغنى منّي معرفة بتفاصيل حياته، ولكن؛ "ما لا يُدرك كله لا يُترك جلّه" لأكون أديت جزءاً بسيطاً من الحق والأمانة، سائلاً المولى القدير علو درجات المرجع الشيرازي الراحل، وأن يجازيه الجزاء الأوفى على كل ما قدمه وعمله لوجهه –تعالى- وعلى كل تضحياته الجسام، في أمواله، وسمعته، ومقامه الاجتماعي الدنيوي، وأن يوفقنا لما فيه مرضاته، إنه سميعٌ مجيب.
اضف تعليق