إن معظم المشاهد في لوحة الأربعين يُحيل إلى قيم إنسانية نادرة في صور ما قبل الأربعين، وما بعده، وهذه المشاهد من التراحم والتوادد التي يألفها كل مشارك في هذه الرحلة الحيّة توقظ في الناس عموما فطرتهم السوية، وتنبههم إلى أصلهم المشترك الذي شوهته تصنيفات البشر بعضهم لبعضهم...

ما يجعل من حدث أربعينية الحسين عليه السلام حدثا مختلفا عن سائر التجمعات العالمية الضخمة ذات الصفة (الكرنفالية) أو الاحتفالية أنها مرتبطة بطقوس دينية إسلامية قوامها الأسى والحزن، وغايتها إظهار الولاء والوفاء لما أصاب الإمام الحسين، وأهل بيته عليهم السلام في المقام الأول، مع ما تختزنه هذه المناسبة في أعماقها من شعور التعاطف، والاصطفاف مع المظلوم، والنفور من أعمال الظالم، وأعوانه. ومن هنا كانت هذه المناسبة الدينية على وجه التحديد مثار قلق دائم لأنظمة الجور والفساد عبر التاريخ. 

وفي دواخل تلك المراسم، والطقوس (عصمة ذاتية) تسيّج المناسبة الدينية بأطر شرعية صارمة لا تسمح بخروج تفاصيل التفاصيل فيها بأي حال من الأحوال عن حدود المأساة، وأصول المواساة، وهي بذلك تختلف (عاطفيا عن التجمعات الدينية الضخمة في نطاق العالم الإسلامي كما هو الحاصل في موسم الحج من كل عام، أو كما يحدث في التجمعات الدينية للأديان الأخرى سواء السماوية منها أم غيرها، فمعظمها ينتهي به الحال إلى مهرجانات عالمية لتسويق اللهو، واللعب، والترفيه، ويمكن ملاحظة ذلك بلا أدنى لبس في مناسبة (الحج الهندوسي) أو ما يعرف بـ ( الكومبه ميلا)، فذلك الطقس (الديني) غير مرتبط بـأي نوع من أنواع الـ (تراجيديا) يحول دون صيرورته إلى مهرجان أو فلكلور شعبي، هذا أولا، وثانيا فإن العقيدة الوثنية لدى هؤلاء المتدينين الهندوس لا تمانع في تحويل ما هو مقدس عندهم إلى ميدان للهو، والمرح، والترفيه لاسيما إذا وجد ترويجا إعلاميا عالميا، وأدّى إلى إنعاش الموارد السياحية والتجارية.

وكل ذلك حدث تاريخيا للحج الهندوسي بإرادة وإدارة من طرف المستعمر المحتلّ آنذاك، أي الإمبراطورية البريطانية التي كانت تدرك كلّ الإدراك بأن التجمعات الدينية الضخمة يمكن أن تتحول في أي لحظة إلى منصات للتعبئة السياسية أو الاحتجاج ضدها، ولذلك فقد صمم البريطانيون على تحويل هذه المناسبة الدينية الهندوسية الكبيرة إلى مناسبة احتفالية، ووجهة سياحية لا غير؛ لأن في ذلك تقليلا لجوانبها الروحية، وتعطيلا لإمكاناتها السياسية أو الثورية من جهة.

ومن جهة أخرى فإن إدارة البريطانيين للحج الهندوسي، وتنظيمه بدعوى ضمان الأمن والسلامة منحهم في تلك الفترة فرصة مراقبة الحشود والسيطرة عليها. وقد نجح البريطانيون النجاح كله في هذا الموضوع مع الهنود، ولكن بريطانيا لم تغامر في تطبيق هذا النموذج في العراق، ولعلها لم تفكر في ذلك أصلا على الرغم من احتلالها للعراق مدة طويلة نسبيا، ومعرفتها بوجود الزيارات الدينية المليونية في هذا البلد، ولاسيما زيارة أربعينية الإمام الحسين عليه السلام؛ لأن البريطانيين أيقنوا -كما يبدو- بأن هذه المناسبة الدينية على وجه الخصوص تمثل شعيرة دينية عبادية حزينة، وأي محاولة من قبلهم لتحويلها إلى شكل (مهرجاني)، أو حتى الاشتراك بإدارتها وتنظيمها سيُنظر إليه حتما بوصفه مساسا بروحها، وجوهرها الديني المقدس، وتدخلا سافرا من لدن المحتل المستعمر الذي سبق له أن حورب بفتوى دينية...

إن معظم المشاهد في لوحة الأربعين يُحيل إلى قيم إنسانية نادرة في صور ما قبل الأربعين، وما بعده، وهذه المشاهد من التراحم والتوادد التي يألفها كل مشارك في هذه الرحلة الحيّة توقظ في الناس عموما فطرتهم السوية، وتنبههم إلى أصلهم المشترك الذي شوهته تصنيفات البشر بعضهم لبعضهم بعناوين (نحن وهم)، فيكاد لا يرى الرائي في جملة الجموع السائرة إلا أسرة واحدة قد أتقن رب العائلة فيها توزيع أدوار العمل الطوعي في ما بينها على أكمل وجه وأحسنه. 

أكثر من ثلاثة ملايين وافد أجنبي جاؤوا من أصقاع شتى، وجنسيات شتى بحسب إحصاءات رسمية، وغير رسمية. ربما تستطيع تمييز ملامح أحدهم من أول نظرة لكن يتعذر عليك وضعه في قالب منفصل عن غيره من أخوانه المختلفين عنه في الجنسية والعرق، وحتى الدين، فالكلّ هنا إما زائرٌ، أو في خدمة الزائرين!

 في كل موكب خدمي ظاهرة من العطاء الفريد يتلاحم فيها أفضل ما في الفرد، والمجتمع مع أفضل ما في الإنسانية ليكون الناتج لغة مشتركة يفهمها الجميع على السواء، وتستمد أبجديتها من قيم الرحمة، والمحبة، والتآخي، وتظهر على شكل بوادر بذل وإحسان تقابلها مشاعر ودّ وامتنان... 

اضف تعليق