ثورة إصلاحية وجودية انطلقت من أعماق التوحيد، وارتكزت على رسالة السماء في مقاومة الظلم والفساد والانحراف. إنه إصلاح لا يقف عند حدود المظهر، بل يمتد إلى الإصلاح العقدي والفكري والأخلاقي والاجتماعي. فكانت كربلاء حركة لتثوير الضمير الإنساني وتحريك سواكن الفطرة. وكذا فهي حركة لتنوير العقل المسلم وترسيخ الوعي...
مقدمة
حينما تطلّ علينا ذكرى عاشوراء، لا نقف أمام مجرد حدث تاريخي أو مأساة عاطفية، بل نجد أنفسنا أمام أعظم مدرسة في التاريخ البشري، مدرسةٍ سطرها الدم الطاهر على أرض كربلاء، ليتحول الإمام الحسين (عليه السلام) إلى رمز أبدي للحق والحرية والكرامة.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: كيف يمكن أن نترجم هذه الذكرى الخالدة إلى مشروع حيّ يغير النفوس ويصلح المجتمعات ويجسد القيم الحسينية في واقعنا؟
أولاً: في فهم جوهر الثورة الحسينية
لم تكن نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) مجرد صراع سياسي عابر أو نزاع على سلطة زمنية، بل كانت ثورة إصلاحية وجودية انطلقت من أعماق التوحيد، وارتكزت على رسالة السماء في مقاومة الظلم والفساد والانحراف.
لقد لخص الإمام هدفه بقوله:
«إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي».
إنه إصلاح لا يقف عند حدود المظهر، بل يمتد إلى الإصلاح العقدي والفكري والأخلاقي والاجتماعي.
فكانت كربلاء حركة لتثوير الضمير الإنساني وتحريك سواكن الفطرة. وكذا فهي حركة لتنوير العقل المسلم وترسيخ الوعي والبصيرة سواء على المستوى الديني او على المستوى السياسي.
ثانياً: من البكاء إلى البناء: تفعيل المنهج الحسيني
إن عظمة الشعائر الحسينية -من البكاء واللطم والمسيرات وغيرها- لا ينبغي أن تبقى غايةً في ذاتها، بل لا بد أن تكون وسيلة للبعث الروحي والتغيير السلوكي. ومن هنا فإن تفعيل المنهج الحسيني في المجتمع يقتضي عدة مرتكزات:
1- ترسيخ العقيدة الصحيحة
بيان أن الحسين (عليه السلام) خرج دفاعًا عن التوحيد المحض، ورفضًا للإسلام الأموي المزيف. وعودة الى الإسلام المحمدي الأصيل.
ويكون ذلك من خلال ربط العقيدة بالحياة اليومية بأن يكون الله حاضراً في وعي الناس، وألا تقتصر العقيدة على مظاهر فارغة.
2- تزكية النفوس وتعزيز معالي الأخلاق
كربلاء مدرسة للصبر والإيثار والوفاء والصدق، وهي القيم التي ينبغي غرسها في الأفراد عبر الخطب والدروس والورش التربوية.
ويكون ذلك من خلال إحياء روح التوبة والعودة إلى الله في هذه الأيام، فكما قال الإمام جعفر الصادق (ع):
«إن الله تعالى يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها».
3- بناء الوعي الفكري والاجتماعي
تسليط الضوء على خطر الاستبداد والفساد السياسي والظلم الاجتماعي.
وتربية الناس على مقاومة الذل والمهانة في كل مظاهر الحياة من البيت إلى المجتمع إلى الدولة.
ثالثاً: الترجمة العملية للقيم الحسينية
ويكون ذلك من خلال جملة من الامور منها:
أ. الخدمة الاجتماعية باسم الحسين (ع)
إقامة مشاريع خيرية، ومبادرات تنموية ترفع مستوى المجتمع الفقير والمحروم.
فيجب اعتبار كل عمل خيري امتداداً لكلمة الإمام: «كونوا أحرارًا في دنياكم».
ب. محاربة الرذائل الاجتماعية
من خلال نشر ثقافة الحسين في مقاومة الظلم والفساد الأخلاقي.
وإقامة حملات شعبية ضد الآفات الاجتماعية امثال: المخدرات، الفساد الإداري، العنف الأسري.
ج. تهذيب الذات ومجاهدة النفس
فلابد من اعتبار كل فرد عاشورائي مشروع حسيني مصغَّر: يثور على هوى النفس، ويرتقي في درجات الإيمان.
رابعاً: استنهاض الشباب في المسيرة الحسينية
الشباب هم جنود عاشوراء الجدد، ومن هنا وجب: استخدام الوسائل العصرية (التكنولوجيا، الإعلام، الفنون) لزرع الوعي الحسيني.
مضافا الى إشراكهم في مجالس التنظيم والتخطيط، وفي نشر رسالة الحسين بلغات العالم.
خامساً: ربط كربلاء بالنهضة المهدوية
كربلاء ليست نهاية الحكاية بل بدايتها، والمهدي (عجل الله فرجه) هو الوارث الشرعي لدم الحسين.
فشعار: «يا لثارات الحسين» ليس مجرد شعار بل دعوة دائمة لإعداد الذات والمجتمع لظهور العدل المطلق.
واخيرا اقول:
عاشوراء ليست ذكرى عابرة، بل هي صوت خالد ينادي كل الأجيال:
أن انهضوا في وجه الفساد كما نهض الحسين.
أن أصلحوا أنفسكم ومجتمعاتكم كما أراد الإمام.
أن اجعلوا الحسين في قلوبكم نهجاً، وفي عقولكم فكراً، وفي سلوككم خُلُقاً.
إننا حين نجعل من الحسين (ع) مشروعاً يومياً لا موسماً عابراً، حينها فقط ستتحقق مقولة:
«كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء».
اضف تعليق