على الولايات المتحدة لاسيما في ظل إدارة ترامب ان تدرك وتقر بأن العالم في ظل الاقتصاديات والتقنيات العالمية القوية مثل الصين، ان النظام الدولي قد تغير ولم تعد الولايات المتحدة الامريكية القطب الأوحد وانما نتجه الى نظام عالمي متعدد الأقطاب تحتل فيه الصين موقعا متقدما، فيما يمثل ذلك تراجعا...

قد لا تكون القرارات التصعيدية من إدارة ترامب ضد الصين مفاجئة بالنسبة لحكومة بكين عندما رفعت واشنطن الرسوم الجمركية على السلع الصينية الى 125% وهي نسبة قابلة للزيادة بحسب المؤشرات الراهنة، جاءت تلك القرارات بعد ان عمد ترامب على تجميد قراراته هذه لمدة ثلاثة أشهر، فرض الرسوم الجمركية على أكثر من تسعين دولة فيما صعد نسبة الرسوم الجمركية على الصين بالمقابل ردت الصين بفرض رسوم جمركية على السلع الامريكية الى 125%.

وبرر ترامب قراراته بأن أوضاعاً غير سوية أضرت الولايات المتحدة على مدار 50 عاماً، أي منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي، وهو تاريخ غريب لأنه يتزامن مع قرارات اقتصادية مهمة للرئيس نيكسون خلال اب/ اغسطس عام 1971 بإلغاء الاعتماد على احتياط الذهب، والتخلي عن تثبيت سعر العملات، وجعل الدولار الأميركي ضمنياً العملة الرئيسة في النظام التجاري الدولي، مع فرض 10% جمارك على الواردات الأمريكية من الخارج، لتمويل الموازنة بالاقتراض والضغط على البنك المركزي للاحتفاظ بالفوائد على مستويات منخفضة.

حيثيات هذا التصعيد من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليس وليد اليوم وانما يعود الى الولاية الأولى لترامب حيث بدأت الحرب التجارية من قبل الولايات المتحدة تجاه الصين عندما أعلن ترامب في اذار/ مارس 2018 عن وجود نية لفرض رسوم جمركية تبلغ 50 مليار دولار امريكي على السلع الصينية بموجب المادة 301 من قانون التجارة لعام 1974 بهدف اجبارها على اجراء تغييرات على ما تقوله الولايات المتحدة الامريكية انهاء الممارسات التجارية الصينية غير العادلة واختراقات الملكية الفكرية.

تشير التقارير الى ان ترامب في ولايته الأولى ارجع تلك القرارات والإجراءات بأنها قد تساهم في العجز بين الولايات المتحدة الامريكية وجمهورية الصين الشعبية، وان الحكومة الصينية تشترط نقل التكنولوجيا الامريكية الى الصين رداً على التدابير التجارية الامريكية اذ اتهمت الصين إدارة ترامب بالانخراط في التوجه القومي والانتقام من الاقتصاد الذي واجهته الصين بفرض رسوم جمركية على اكثر من 128 منتج امريكي، ومع هذا التصعيد او ما سمي بالحرب التجارية بين الدولتين توصلا في كانون الثاني/ يناير 2020 الى اتفاقية كمرحلة أولى لتخفيف التوتر الاقتصادي وبحلول نهاية رئاسة ترامب الأولى وصفت الحرب التجارية بأنها بمثابة فشل منيت به الولايات المتحدة الامريكية.

ومع صعود إدارة جديدة في البيت الأبيض بقيادة الديمقراطي جو بايدن، دعا وزير الخارجية الصيني وانغ بي في 22 شباط/ فبراير 2021 إدارة بايدن الى رفع القيود المتعددة التي فرضتها إدارة ترامب وهذا ما حصل فعلا عندما رفعت العقوبات المفروضة على التجارة والاتصال، فيما استمرت التعريفات الجمركية كما هي وأضافت رسوما إضافية على السلع الصينية مثل المركبات الكهربائية، والالواح الشمسية، وفي نهاية فترة الولاية الأولى لجو بايدن واثناء الحملات الانتخابية عندما رشح ترامب نفسه لولاية رئاسية ثانية في 2024 اقترح وضع تعريفة جمركية بنسبة 60% على السلع الصينية وفي الأشهر الأولى من ولايته الثانية فرض ترامب رسوماً جمركية على اكثر من 90 دولة وفي مقدمتها الصين، وهي المقصودة من كل هذه الدول، مما يوشر على تصاعد في توتر العلاقات بين الصين والولايات المتحدة الامريكية.

وجاء هذا التصعيد لما يعده الجانب الأمريكي بالخطر الصيني المتصاعد والخشية من ان تتحول الصين الى أولى الاقتصاديات في العالم، واكبر مصدر للولايات المتحدة الامريكية فيما حملت الصين المسؤولية الكاملة عن الاضطراب الحاد في الاقتصاد العالمي للهيمنة والسياسات الامريكية وهي تدخل ضمن الحرب الاقتصادية التي اطلقتها إدارة ترامب عبر زيادة الرسوم الجمركية، اذ قال المتحدث باسم وزارة التجارة الصينية ان التعريفات الامريكية الحقت بالاقتصاد العالمي وأنظمة التبادل المتعددة صدمات خطيرة واضطرابات حادة، مقللا في الوقت ذاته من ان تلك الرسوم أصبحت لعبة ارقام لا أهمية عملية لها في الاقتصاد الصيني مشيرا الى ان ذلك لن يودي الا الى فضح مزيد من الاكراه الذي تمارسه الولايات المتحدة وسيصبح الامر اضحوكة.

من جانب آخر، عد مراقبون ان اكبر الرابحين من قرارات ترامب شركة تسلا وشركات الطيران، وهناك شبه إجماع دولي على أن القرارات الأمريكية ستخلق سلسلة من ردود الفعل السريعة وغير الإيجابية، إذ فرضت الصين أشد منافسيها جمارك موازية، والحلفاء في أوروبا يجهزون رد فعلهم، ودعا الرئيس الفرنسي ماكرون إلى عدم الاستثمار في الولايات المتحدة، وأعرب مسؤولو البنك الدولي عن خشيتهم أن تؤدي الحروب التجارية المتوقعة إلى انكماش الاقتصاد العالمي، والذي يشكل الاقتصاد الأميركي 25% منه، بل أعرب محافظ البنك المركزي الأميركي ذاته عن خشيته من ارتفاع التضخم وتداعيات زيادة الجمارك على النمو الاقتصادي العالمي.

هذا وحذر عدد من الكتاب ومنهم الصحفي الأمريكي فريد زكريا من أن استخدام القوة والنفوذ الأميركي بصورة متنمرة ومتقلبة سيضر الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة، لأنه يدفع الآخرين إلى خلق فرص ومجالات وساحات بديلة، ويضعفها اقتصادياً، ويفتح الباب على مصراعيه لأصحاب النفوذ والفساد، ويجعل أميركا غير مؤثرة في التوجهات الاقتصادية والسياسية الدولية الجديدة.

ومما تقدم نستنتج، التداعيات التي من المحتمل ان تتركها قرارات ترامب في رفع الرسوم الجمركية على خصوم الولايات المتحدة الامريكية من خلال الآتي:

 أولاً مشاكل اقتصادية ومالية كبيرة في الولايات المتحدة كون الصين تعد المصدر الأول للولايات المتحدة، ثانياً ان تلك القرارات لا تخرج عن محاولات الولايات المتحدة الامريكية في حربها التجارية او حربها الباردة تجاه الصين حفاظاً على ما تبقى من متروكات نظام القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي السابق، من هنا على الولايات المتحدة لاسيما في ظل إدارة ترامب ان تدرك وتقر بأن العالم في ظل الاقتصاديات والتقنيات العالمية القوية مثل الصين، ان النظام الدولي قد تغير ولم تعد الولايات المتحدة الامريكية القطب الأوحد وانما نتجه الى نظام عالمي متعدد الأقطاب تحتل فيه الصين موقعا متقدما، فيما يمثل ذلك تراجعا ملحوظا للولايات المتحدة الامريكية لاسيما بعد فشلها في إدارة ملفات عديدة داخلياً وخارجياً.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية / 2001 – 2025 Ⓒ

http://mcsr.net

اضف تعليق