اليوم، تقف الشعوب على عتبة مرحلة جديدة، ملامحها لم تتضح بعد، غير أن أبرز سماتها هو تراجع أفكار قوى ما قبل الدولة، وصعود الوعي نحو الدولة القوية. قوة الدولة وأنجع الافكار والسبل لبنائها هي التحدي الفكري والثقافي الاول قبل تحديات السياسة والاقتصاد...

كانت الحروب، ولا تزال، العامل الرئيس في تغيير العالم: تغيير الخرائط السياسية، وتطوير التكنولوجيا، وبناء الأنظمة الأمنية، والتحالفات، ومراكز النفوذ، فضلاً عن توسيع نطاقات الأفكار والأيديولوجيات. ومن بين تلك الحروب التي أدخلت تغييرات كبرى في الشرق الأوسط، حرب غزّة التي اندلعت في 7 تشرين الأول 2023 ولا تزال مستمرة. خلال عام ونصف فقط، تغيّرت خرائط سياسية عديدة، ويُرجّح أن تتواصل عاصفة التغيير.

فقد تقدّمت قوى وتراجعت أخرى، وتزايد الوزن السياسي والاستراتيجي لبعض الدول، فيما تراجعت مكانة دول أخرى السلاح، والقوة، والاقتصاد، والإرادة السياسية، وسيكولوجيا القادة، كانت أبرز العوامل المحرّكة لتلك العاصفة. غير أن الرهان الأصعب كان على منطق الأيديولوجيا، لا على المصالح وتقدير المخاطر. فقد غاب هذان العاملان عن تفكير العديد من القوى، قبل أن تتيقّن لاحقًا من أن أسلحة الحرب والتكنولوجيا المتقدمة قادرة على تغيير موازين القوى وتعديل قواعد اللعبة السياسية. 

فمن كان مهاجمًا بات في موقع الدفاع عن وجوده، ومن كان يستقوي بالسلاح داخليًا وخارجيًا، وجد أن الحفاظ على سلاحه صار مشكلة حقيقية وخطيرة، فإما أن يشتري بقاءه ويتنازل عن سلاحه، أو يتشبّث به ويضطر للدفاع عنه، وهو ما قد يكلّفه خصومات ومعارك قاسية تُدمّر ما تبقّى من الحاضنة وإمكاناتها.

هذه الدينامية فتحت جبهة جديدة من النقاش الفكري والسياسي والإعلامي حول طبيعة العلاقة بين الأحزاب والتنظيمات من جهة، والدولة من جهة أخرى، بوصفها الكيان الأوسع والمسؤول قانونيًا وسياديًا عن مواطنيها ومصالحهم.

في لبنان، يدور حوار إعلامي وسياسي حول كيفية حصر السلاح بيد الدولة واحتواء التوترات الناتجة عن الضغط الأميركي - الإسرائيلي خاصة، والدولي عمومًا، الذي بات يربط بين إعادة إعمار مناطق الجنوب وتحرير الأراضي المحتلة من جهة، وبين نزع سلاح حزب الله وإنهاء ما عُرف بثنائية الجيش والمقاومة من جهة أخرى. لقد بات سلاح المقاومة، في وعي شرائح واسعة، عنوانًا للدفاع عن وجود الشيعة في لبنان، لا عن لبنان ككل في مواجهة الاحتلالات والاعتداءات الإسرائيلية. 

وهكذا، تتداخل مفاهيم الدفاع عن الطائفة في نظام سياسي يعاني من اختلالات بنيوية، مع مفاهيم الدفاع عن الأرض في مواجهة أطماع الكيان الإسرائيلي ومشاريعه. وستُخاض معركة جديدة بين من يريد طيّ صفحة المقاومة ونظرياتها، وبين من يطالب بالعودة إلى الدولة واشتراطاتها. هذه المعركة، وتوجهاتها، ستحسم مفاهيم ومشاريع ورؤى تتجاوز لبنان إلى المنطقة بأسرها، باعتبار أن المقاومة في لبنان شكّلت الحلقة النظرية الثانية بعد انطلاقة المقاومة الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني الاحتلالي التوسعي. ورغم مرور 77 عامًا على المقاومة الأولى، و43 عامًا على الثانية، فإن الحصيلة كانت سلسلة معارك للسلاح والمفاهيم والمشاريع، حققت انتصارات معنوية وسياسية، لكنها لم تمنع الكيان الصهيوني من العودة كقطب عسكري وتكنولوجي يرسم مع الولايات المتحدة خرائط السياسة والنفوذ والتأثير المادي والنفسي.

الهجوم الأميركي المتواصل منذ أسابيع على جماعة “أنصار الله” الحوثية في اليمن، يأتي في سياق خطة تهدف إلى تجريد المنطقة من ظاهرة “الفواعل الشعبية غير الدولتية”، التي نشأت بفعل ضعف الدولة أولًا، وضعف النظام الإقليمي العربي في تصحيح المعادلة المختلّة لصالح إسرائيل والغرب عمومًا. يرى بعض المراقبين أن الجمهور العربي بات يفتقر إلى الحيل والخيارات لتكييف الإمكانات خارج إطار الدولة، إذ لم يُضف السلاح المنفلت خارج سيطرة الدول الضعيفة قوةً إلى كيان الدولة، بل أنتج ما يُشبه “الدولة داخل الدولة”، وأسهم في اهتراء البنية السياسية وانقسام المجتمعات، دون أن يحصّنها من الضغوط الخارجية أو الانقسام الداخلي أو الحروب الأهلية. 

لقد رعى المشروع القومي العربي، المتجه شرقًا، قيام منظمات وحركات مقاومة في مواجهة المشروع الصهيوني، بينما تبنّى المشروع الإسلامي الإيراني، تحت شعار “لا شرقية ولا غربية”، تأسيس ودعم حركات المقاومة الإسلامية. كلا المشروعين جعل من القدس بوصلة له، ومن تحرير الأرض والإنسان عنوانًا. في المقابل، طورت إسرائيل وحلفاؤها استراتيجية التدمير والتفكيك، وسعوا لتحطيم القدرات الإقليمية لضمان تفوقهم سابقًا، ومنعًا لأي تهديد حاليًا. 

في صلب هذا الصراع تكمن عناصر المشروع الإيراني العسكري والنووي، ونظرية المقاومة وأذرعها، وهو ما يفسّر شراسة الهجوم الأميركي – الإسرائيلي، المدفوع هذه المرّة أيضًا بمنهج سياسي واضح. فترامب يسعى لإحياء “عظمة الأمة الأميركية” بعد أن ترهّلت، ونتنياهو يريد تغيير الشرق الأوسط بما يمنع بروز أي مشروع أو حركة تهدد وجود إسرائيل أو تربك فكرة اندماجها الاقتصادي والسياسي في المنطقة. 

هكذا تتبلور استراتيجية السلام والأمن في الشرق الأوسط من منظور “الآخرين”، لا من منظور بعض العرب والمسلمين. ويبقى السؤال الجوهري الذي يلحّ على المفكرين والمخططين والاستراتيجيين العرب والمسلمين: كيف يمكن الوقوف في هذه اللحظة الزمنية الفارقة بين المشاريع المتصارعة لصناعة أفق جديد يحمي الشعوب من اليأس، والفقر، والتدمير، والإحباط؟

من منظور مقاصدي وغائي، شكّلت حركات التغيير والتجديد والتحديث والمقاومة شبكات مفاهيمية وميدانية خاضت غمار العمل الفكري والسياسي والثقافي، إلى جانب المواجهات المسلحة، بهدف تصحيح اختلالات السلطة والسياسة والمجتمع. 

واليوم، تقف الشعوب على عتبة مرحلة جديدة، ملامحها لم تتضح بعد، غير أن أبرز سماتها هو تراجع أفكار قوى ما قبل الدولة، وصعود الوعي نحو الدولة القوية. قوة الدولة وأنجع الافكار والسبل لبنائها هي التحدي الفكري والثقافي الاول قبل تحديات السياسة والاقتصاد.

اضف تعليق