كان يبدأ طلابه بالأدب قبل أن يلقي إليه العلم، فلقد كان الإمام الصادق (ع) يبدأ مع مَنْ يريد أن يتعلم العلم منه بتعليم الأخلاق ويُبيِّن له اللباب فيما يرتبط بهذا الباب، أي يطلب منه الالتزام بتلك الأصول التي تؤدي به إلى الإيمان والصلاح، والشجاعة والحلم، والكرم وعمل الخير...
استشهد الإمام الصادق (ع) في (25) شوال سنة (148) للهجرة وله من العمر (65) سنة
مقدمة نورانية
هذه الطائفة المحقَّة كأن الله خصَّها بالنور والعلم والمعرفة لأنها تؤمن بعالم الأنوار، وخلقة أولئك الأنوار الذي خلقهم الله من نوره، وضربهم مثلاً لكلمته الطيبة ونوره في كتابه الحكيم، وذلك لأنهم اتَّبعوا وتمسَّكوا بأحاديث النور والواردة عنهم (صلوات الله عليهم)، لا سيما الحديث المشهور عن أول نور خلقه الله تعالى وهو قول جابر بن عبد الله الأنصاري الذي قَالَ: قُلْتُ لِرَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَ اَللَّهُ تَعَالَى مَا هُوَ؟ فَقَالَ: (نُورُ نَبِيِّكَ يَا جَابِرُ خَلَقَهُ اَللَّهُ ثُمَّ خَلَقَ مِنْهُ كُلَّ خَيْرٍ). (بحار الأنوار: ج۱۵ ص۲4)
وأما الإمام السادس جعفر بن محمد (صلوات الله عليهما) فيقول: (إِنَّ اَللَّهَ كَانَ إِذْ لاَ كَانَ فَخَلَقَ اَلْكَانَ وَاَلْمَكَانَ، وَخَلَقَ نُورَ اَلْأَنْوَارِ اَلَّذِي نُوِّرَتْ مِنْهُ اَلْأَنْوَارُ، وَأَجْرَى فِيهِ مِنْ نُورِهِ اَلَّذِي نُوِّرَتْ مِنْهُ اَلْأَنْوَارُ، وَهُوَ اَلنُّورُ اَلَّذِي خَلَقَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً فَلَمْ يَزَالاَ نُورَيْنِ أَوَّلَيْنِ إِذْ لاَ شَيْءَ كُوِّنَ قَبْلَهُمَا، فَلَمْ يَزَالاَ يَجْرِيَانِ طَاهِرَيْنِ مُطَهَّرَيْنِ فِي اَلْأَصْلاَبِ اَلطَّاهِرَةِ حَتَّى اِفْتَرَقَا فِي أَطْهَرِ طَاهِرِينَ فِي عَبْدِ اَللَّهِ وَأَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ). (الکافي ج۱ ص44۱)
وأما اَلْمُفَضَّلِ فأَنَّهُ سَأَلَ اَلصَّادِقَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): مَا كُنْتُمْ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اَللَّهُ اَلسَّمَاوَاتِ وَاَلْأَرَضِينَ؟ قَالَ: (كُنَّا أَنْوَاراً حَوْلَ اَلْعَرْشِ نُسَبِّحُ اَللَّهَ وَنُقَدِّسُهُ حَتَّى خَلَقَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ اَلْمَلاَئِكَةَ)، فعالم الأنوار منار بنور محمد وآل بيته الطيبين الطاهرين الذين واسطة العقد فيهم الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) الذي ملأ الدنيا وشغل الناس منذ ثلاثة عشر قرناً من عمر الزمن، وذلك لأنه النور الذي أضاء الكون بحضوره الشريف وحياته المباركة وعطاءه العلمي غير المحدود.
فالإمام الصادق (ع) هو ذلك الإمام الذي كان أطول آل البيت عمراً، وكان في عمره مباركاً بشكل منقطع النظير وكأن الآية الكريمة العيسوية جرت على لسنانه الشريف منذ أن خلقه الله تعالى في هذا العالم: (وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ) (مريم: 31)، فالبركة أحاطت به في حياته وبعد شهادته ولذا تجده إلى اليوم وبعد هذه القرون المتطاولة يبسط مائدته العلمية في طول البلاد وعرضها وجميع طلاب العلم يجلسون وينهلون من تلك المائدة الربانية النورانية وكل منهم يأخذ منها بغيته وحاجته للدنيا والآخرة، فأي بركت تلك سيدي ومولاي يا أبا عبد الله كانت حياتك المعطاءة؟
الإمام الصادق (ع) نور الأنام
ومَنْ يطَّلع أو يقرأ تاريخ الإسلام يجد بشكل واضح لا لبس فيه أن الإمام الصادق كان من أولئك الأنوار الرَّبانية التي تتصل بالنور المحمدي الأول الذين وصفهم الإمام العاشر علي الهادي (ع) في زيارته الجامعة لهم بقوله: (وَأَنَّ أَرْوَاحَكُمْ وَنُورَكُمْ وَطِينَتَكُمْ وَاحِدَةٌ طَابَتْ وَطَهُرَتْ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، خَلَقَكُمُ اَللَّهُ أَنْوَاراً فَجَعَلَكُمْ بِعَرْشِهِ مُحْدِقِينَ حَتَّى مَنَّ عَلَيْنَا بِكُمْ فَجَعَلَكُمْ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ)، والإمام السادس منهم هو دُرّةَ الوسط لعقد الإمامة، ولذا تراه متألقاً في حياتهم المباركة ومميَّزاً ومنوراً في نوره وعطائه في هذه الأمة.
وصدق مَنْ قال: "كان الإمام الصادق (ع) حقاً مناراً من منارات النبوة، ومعلماً من معالم الإمامة، ومناراً للعلماء الربانيين، في الوقت الذي النفوس فيه مظلمة، والإمامة المعتصمة بالعصمة محاصرة، حمل الإمام الصادق (ع) مشعل الهداية وجعلها متَّقدة ليتمَّ نورها وينشرها، وقد أبانَ بأقواله وأعماله وسلوكه وأخلاقه الطريق لكل ذي عينين، وبيَّن الحقيقة لكل مَنْ ألقى السَّمع وهو شهيد..
علَّم الناس طريق الوصول إلى جنان الله، وحذَّرهم من سلوك طريق إبليس إلى النيران.. حقاً لقد أنار العقل بالعقل، والفطرة بالفطرة، وبيَّن القرآن بالقرآن، وأوضح الحقائق الكبرى بالحقائق الكبرى، وأبان نواميس الحياة بنواميس الحياة، فكان المرجع، وكان الميزان"، فهو أستاذ الكل ومعلم الجميع لأنه الملاذ الذي اجتمعت عليه الأمة الإسلامية المرحومة به فأعاد لها تألقها من بعد ما حاول ولأكثر من ثمانين سنة صبيان النار الأموية، وفروع الشجرة الملعونة في القرآن دفنه كما قال وحاول كبيرهم الذي علَّمهم الكفر معاوية بن هند الهنود آكلة الكبود طيلة حكمه الذي طال لأربعين سنة وهو حرام عليه أن يتولى عريفاً لبني أمية في مكة المكرمة، لأن الإمام الحسين (ع) يقول لمروان الوزغ: (لَقَدْ سَمِعْتُ جَدِّي رَسُولَ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يَقُولُ: اَلْخِلاَفَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَى آلِ أَبِي سُفْيَانَ، وَعَلَى الطُّلَقَاءِ وأَبنَاءِ الطُّلَقَاءِ، فَإِذَا رَأَيتُم مُعَاوِيَة عَلَى مِنبَرِي فَابقُرُوا بَطنَه» فَوَ اللهِ لَقَد رَآهُ أَهلُ المَدِينَة عَلَى مِنبَرِ جَدِّي فَلَمْ يَفعَلُوا مَا أُمِرُوا بِهِ، قَاتَلَهُم اللهُ بِابنِهِ يَزيد! زَادَهُ اللهُ فِي النَّارِ عَذَابَاً). (الفتوح لابن أعثم: ج5 ص 17)
أولئك الأشقياء حوَّلوا الحكم إلى ملك عضوض راح ينهش في جسد الأمة الإسلامية، وأعتموا نورها وأخمدوا ضياءها طيلة ثمانين سنة حيث سنُّوا تلك السُّنة الأموية بسبِّ أمير المؤمنين الإمام علي (ع) وأهل البيت (ع) وكان الإمام الصادق (ع) عاش في ظلام وظلم تلك الدولة البغيضة ردحاً من الزمن فيما يعرف بالمخضرم بين سقوط بنو أمية إلى أسفل السافلين ورميهم في مزابل التاريخ، ونهوض بنو العباس على غفلة من الزمن لأنهم كانوا أبعد ما يمكن عن الدعوة التي انطلقت تحت شعار (الرضا من آل محمد)، وكان الإمام الصادق (ع) هو عَلَمُ الأعلام، ونور الأنام في عصر الظلام ذاك فأرسل إليه القادة ليكون هو الخليفة ولكنه رفض الخلافة وأحرق الرسالة دون أن يقرأها فتعجَّب من فعله حاملها فقال: العجب كل العجب ممَّن تأتيه الخلافة فيرفضها، وكانت حكومة تمتد لأكثر من خمسين دولة من دول اليوم، وبعد سنوات من سيطرة العباسيون عليها قال هارونهم للغيمة والسَّحابة: (شرقي وغربي وأينما أمطرت سيأتيني خراجك).
الإمام الصادق (ع) عَلَمُ الأعلام
في تلك الحقبة السوداء التي كاد نور الإسلام أن يُطمس ودينه أن يدفن بما فعله بنو أمية فيها، هيَّأ الله لها ذاك الإمام العظيم محمد الباقر (ع) فبقر علوم الأنبياء والأوصياء وأحيى علومهم في العالمين، ولكنهم استشعروا خطره لا سيما بعد أن استدعوه وولده الإمام الصادق (ع) إلى الشام ليبطشوا فيهما ولكن حكمة الإمام وعلمه أفشل مخططهم فأعادهما إلى المدينة المنورة رغماً عنه بقصة طويلة في كتب التاريخ حيث أراهم الإمام الباقر عجائب العلوم، وبدائع الأحكام في الطريق فحقدوها عليه فدسُّوا له السَّم فذهب إلى ربه شهيداً شاهداً على ظلمهم وشرهم وحقدهم.
ولكنه قبل أن ينتقل إلى ربه فيوفيه أجور الشهداء والصابرين، سلَّم حوزته العلمية المبسَّطة إلى ولده الإمام الصادق (ع) فحولها إلى مدرسة كبيرة، ثم إلى جامعة كبيرة لم يشهد التاريخ مثلاً لها حيث تضم أكثر من أربعة آلاف طالب وتلميذ في وقت واحد، وينقل الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) ويقول: "ورد في بعض الكتب، أنه كان للإمام الصادق (عليه الصلاة والسلام) مجلس لعامة الناس، ومجلس للخواص، ولتلامذته في مختلف العلوم.. وكان (عليه السلام) يحث على طلب العلم، ويجيب على أي سؤال يطرح عليه من دون تفكر، وكان الناس ومن جميع الطوائف والمذاهب والفرق والأديان يسألونه، ويستفيدون من علمه.
في المناقب لابن شهر آشوب، قال: (ينقل عن الصادق (عليه السلام) من العلوم ما لا ينقل عن أحد، وقد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات وكانوا أربعة آلاف رجل).(المناقب: ج4 ص247)
وفي بعض الروايات: عشرين ألفاً، بل أكثر". (من حياة الإمام الصادق (ع): ص42)
أي عظمة وجامعة في ذلك العصر أنشأ الإمام الصادق (ع) لأنه الجامع للعلوم التي فجَّرها وبقرها والده العظيم فعن عَنْ عَبْدِ اَلْأَعْلَى وَعُبَيْدَةِ بْنِ بِشْرٍ قَالاَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) اِبْتِدَاءً مِنْهُ: (وَاَللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي اَلْأَرْضِ، وَمَا فِي اَلْجَنَّةِ وَمَا فِي اَلنَّارِ، وَمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ إِلَى أَنْ تَقُومَ اَلسَّاعَةُ، ثُمَّ سَكَتَ ثُمَّ قَالَ: أَعْلَمُهُ عَنْ كِتَابِ اَللَّهِ أَنْظُرُ إِلَيْهِ هَكَذَا ثُمَّ بَسَطَ كَفَّهُ وَقَالَ: إِنَّ اَللَّهَ يَقُولُ: (فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ). (بحار الأنوار: ج4۷ ص۳۵)
وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ (ع): (أَنَّ اَللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً نَبِيّاً فَلاَ نَبِيَّ بَعْدَهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ اَلْكِتَابَ فَخَتَمَ بِهِ اَلْكُتُبَ فَلاَ كِتَابَ بَعْدَهُ أَحَلَّ فِيهِ حَلاَلَهُ وَحَرَّمَ فِيهِ حَرَامَهُ فَحَلاَلُهُ حَلاَلٌ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ وَحَرَامُهُ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَفَصْلُ مَا بَيْنَكُمْ، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: نَحْنُ نَعْلَمُهُ). (كشف الغمة: ج۲ ص۱۹۷)
والعجيب أن فيها من التخصصات العلمية العجيبة الغريبة كعلم الكيمياء، حيث ألقى لتلميذه جابر بن حيان الكوفي قال اليافعي في مرآة الجنان: "له كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، وقد ألَّف تلميذه جابر بن حيان كتاباً يشتمل على ألف ورقة يتضمن رسائله، وهي خمسمائة رسالة". (من حياة الإمام الصادق: ص46)
هذا عن بقية أنواع وأصناف العلوم التجريبية والهيأة والنجوم والهندسة، والطبيعة وكروية الأرض، وغيرها من العلوم التي كانت من إبداع الإمام الصادق (ع) هذا عدا عن العلوم الإسلامية والشرعية بكل صنوفها وأنواعها في العربية والفقهية والتفسيرية، إذا أنه كما وصفه العلماء الأعلام بوصف لم يوصف به غيره، قال الشيخ المفيد (رحمه الله) في الإرشاد: (نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الرُّكبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نُقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل). (الإرشاد للمفيد: ج2 ص179)
والحافظ بن عقدة الزيدي جمع في كتاب رجاله: (أربعة آلاف رجل من الثقات الذين رووا عن جعفر بن محمد، فضلاً عن غيرهم، وذكر مصنفاتهم). (أعيان الشيعة: ج1 ص35)
وقال المحقق (رحمه الله) في المعتبر: (انتشر عن جعفر بن محمد (عليه السلام) من العلوم الجمة ما بهر به العقول). (المعتبر في شرح المختصر: ج1 ص26)، وروى عنه راوٍ واحد وهو أبان بن تغلب ثلاثين ألف حديث، روى النجاشي في رجاله بسنده، عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال: (أبان بن تغلب روى عني ثلاثين ألف حديث)، وروى النجاشي في رجاله بسنده، عن الحسن بن علي الوشاء ـ في حديث ـ أنه قال: (أدركت في هذا المسجد ـ يعني مسجد الكوفة ـ تسعمائة شيخ، كل يقول: حدثني جعفر بن محمد). (رجال النجاشي: ص40)
فهذا شيء خارج عن الوسع الإمكان البشري فعلاً هذا إذا عرفنا بأن الإمام الصادق نشأ وترعرع في بيت أبيه الإمام الباقر (ع) ولم يتعلم في مدرسة، ولا اشتهر في التاريخ أنه تلقى الدروس من أحد من العالمين فمَنْ الذي علَّمه، ومن أين جاء بكل هذا البحر القمقام والمحيط الطمطام من العلم الذي لا يساحل ولا يجادل، فإنه من علم الله علمه دون شك أو ريب، وهذا ليس بدعاً من الأنبياء والرسل الكرام فإن الله علَّمهم من عنده ومن علمه وهو الذي آتاهم كما وصف الكثيرين منهم في كتابه الحكيم، كقوله بحق نبي الله يعقوب: (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (يوسف/68)
وبحق العبد الصالح الذي امتحن به كليم الله موسى (ع): (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا) (الكهف/65)، ولذا اصطلح العلماء على هذا العلم باللدنِّي، أي أن علم هؤلاء الكرام ليس بالدِّراسة بل اكتسبوه بالوراثة، وهو الذي قال: (لَيْسَ اَلْعِلْمُ بِكَثْرَةِ اَلتَّعَلُّمِ وَإِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقْذِفُهُ اَللَّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اَللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ) (منیة المرید: ج۱ ص۱6۷)
الأدب قبل العلم (منهج الإمام جعفر)
ومن عجيب ما يُنقل عن الإمام الصادق (ع) ومنهجه في التعليم بأنه كان يبدأ طلابه بالأدب قبل أن يلقي إليه العلم، "فلقد كان الإمام الصادق (ع) يبدأ مع مَنْ يريد أن يتعلم العلم منه بتعليم الأخلاق ويُبيِّن له اللباب فيما يرتبط بهذا الباب، أي يطلب منه الالتزام بتلك الأصول التي تؤدي به إلى الإيمان والصلاح، والشجاعة والحلم، والكرم وعمل الخير، ومساعدة الناس، وغيرها من المفردات الأخلاقية.
هذا رجل من أهل البصرة اسمه "عنوان" يأتي المدينة المنورة لطلب العلم ويبدأ مع مالك بن أنس، ثم يتصل بالإمام الصادق (ع) فيطلب منه أن يعلِّمه شيئاً ويعتذر الإمام قائلاً: (إِنِّي رَجُلٌ مَطْلُوبٌ وَمَعَ ذَلِكَ لِي أَوْرَادٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْ آنَاءِ اَللَّيْلِ وَاَلنَّهَارِ فَلاَ تَشْغَلْنِي عَنْ وِرْدِي فَخُذْ عَنْ مَالِكٍ وَاِخْتَلِفْ إِلَيْهِ كَمَا كُنْتَ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ.
فَاغْتَمَمْتُ مِنْ ذَلِكَ وَخَرَجْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ تَفَرَّسَ فِيَّ خَيْراً لَمَا زَجَرَنِي عَنِ اَلاِخْتِلاَفِ إِلَيْهِ وَاَلْأَخْذِ عَنْهُ فَدَخَلْتُ مَسْجِدَ اَلرَّسُولِ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ مِنَ اَلْغَدِ إِلَى اَلرَّوْضَةِ وَصَلَّيْتُ فِيهَا رَكْعَتَيْنِ وَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ يَا اَللَّهُ يَا اَللَّهُ أَنْ تَعْطِفَ عَلَيَّ قَلْبَ جَعْفَرٍ وَتَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِهِ مَا أَهْتَدِي بِهِ إِلَى صِرَاطِكَ اَلْمُسْتَقِيمِ وَرَجَعْتُ إِلَى دَارِي مُغْتَمّاً حَزِيناً وَلَمْ أَخْتَلِفْ إِلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ لِمَا أُشْرِبَ قَلْبِي مِنْ حُبِّ جَعْفَرٍ فَمَا خَرَجْتُ مِنْ دَارِي إِلاَّ إِلَى اَلصَّلاَةِ اَلْمَكْتُوبَةِ حَتَّى عِيلَ صَبْرِي فَلَمَّا ضَاقَ صَدْرِي تَنَعَّلْتُ وَتَرَدَّيْتُ وَقَصَدْتُ جَعْفَراً وَكَانَ بَعْدَمَا صَلَّيْتُ اَلْعَصْرَ فَلَمَّا حَضَرْتُ بَابَ دَارِهِ اِسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ فَخَرَجَ خَادِمٌ لَهُ فَقَالَ: مَا حَاجَتُكَ؟
فَقُلْتُ: اَلسَّلاَمُ عَلَى اَلشَّرِيفِ، فَقَالَ: هُوَ قَائِمٌ فِي مُصَلاَّهُ فَجَلَسْتُ بِحِذَاءِ بَابِهِ فَمَا لَبِثْتُ إِلاَّ يَسِيراً إِذْ خَرَجَ خَادِمٌ لَهُ قَالَ: أُدْخُلْ عَلَى بَرَكَةِ اَللَّهِ، فَدَخَلْتُ وَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ اَلسَّلاَمَ وَقَالَ: اِجْلِسْ غَفَرَ اَللَّهُ لَكَ، فَجَلَسْتُ فَأَطْرَقَ مَلِيّاً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: أَبُو مَنْ؟ قُلْتُ: أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ، قَالَ: ثَبَّتَ اَللَّهُ كُنْيَتَكَ وَوَفَّقَكَ لِمَرْضَاتِهِ.
قُلْتُ فِي نَفْسِي: لَوْ لَمْ يَكُنْ لِي مِنْ زِيَارَتِهِ وَاَلتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ غَيْرُ هَذَا اَلدُّعَاءِ لَكَانَ كَثِيراً، ثُمَّ أَطْرَقَ مَلِيّاً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ مَا حَاجَتُكَ؟ قُلْتُ: سَأَلْتُ اَللَّهَ أَنْ يَعْطِفَ قَلْبَكَ عَلَيَّ وَيَرْزُقَنِي مِنْ عِلْمِكَ وَأَرْجُو أَنَّ اَللَّهَ تَعَالَى أَجَابَنِي فِي اَلشَّرِيفِ مَا سَأَلْتُهُ.
فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ لَيْسَ اَلْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ إِنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اَللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُبْدِيَهُ فَإِنْ أَرَدْتَ اَلْعِلْمَ فَاطْلُبْ أَوَّلاً مِنْ نَفْسِكَ حَقِيقَةَ اَلْعُبُودِيَّةِ وَاُطْلُبِ اَلْعِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ وَاِسْتَفْهِمِ اَللَّهَ يُفَهِّمْكَ.
قُلْتُ: يَا شَرِيفُ، فَقَالَ: قُلْ يَا أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ، قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ مَا حَقِيقَةُ اَلْعُبُودِيَّةِ؟
قَالَ: ثَلاَثَةُ أَشْيَاءَ أَنْ لاَ يَرَى اَلْعَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اَللَّهُ إِلَيْهِ مِلْكاً لِأَنَّ اَلْعَبِيدَ لاَ يَكُونُ لَهُمْ مِلْكٌ يَرَوْنَ اَلْمَالَ مَالَ اَللَّهِ يَضَعُونَهُ حَيْثُ أَمَرَهُمُ اَللَّهُ تَعَالَى بِهِ.. وَلاَ يُدَبِّرُ اَلْعَبْدُ لِنَفْسِهِ تَدْبِيراً.. وَجُمْلَةُ اِشْتِغَالِهِ فِيمَا أَمَرَهُ اَللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَنَهَاهُ عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يَرَ اَلْعَبْدُ لِنَفْسِهِ فِيمَا خَوَّلَهُ اَللَّهُ تَعَالَى مِلْكاً هَانَ عَلَيْهِ اَلْإِنْفَاقُ فِيمَا أَمَرَهُ اَللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُنْفِقَ فِيهِ وَإِذَا فَوَّضَ اَلْعَبْدُ تَدْبِيرَ نَفْسِهِ عَلَى مُدَبِّرِهِ هَانَ عَلَيْهِ مَصَائِبُ اَلدُّنْيَا وَإِذَا اِشْتَغَلَ اَلْعَبْدُ بِمَا أَمَرَهُ اَللَّهُ تَعَالَى وَنَهَاهُ لاَ يَتَفَرَّغُ مِنْهُمَا إِلَى اَلْمِرَاءِ وَاَلْمُبَاهَاةِ مَعَ اَلنَّاسِ، فَإِذَا أَكْرَمَ اَللَّهُ اَلْعَبْدَ بِهَذِهِ اَلثَّلاَثِ هَانَ عَلَيْهِ اَلدُّنْيَا وَإِبْلِيسُ وَاَلْخَلْقُ وَلاَ يَطْلُبُ اَلدُّنْيَا تَكَاثُراً وَتَفَاخُراً وَلاَ يَطْلُبُ عِنْدَ اَلنَّاسِ عِزّاً وَعُلُوّاً وَلاَ يَدَعُ أَيَّامَهُ بَاطِلاً فَهَذَا أَوَّلُ دَرَجَةِ اَلْمُتَّقِينَ قَالَ اَللَّهُ تَعَالَى: (تِلْكَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَلا فَساداً وَاَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص/ 83)
قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ أَوْصِنِي.
فَقَالَ: أُوصِيكَ بِتِسْعَةِ أَشْيَاءَ فَإِنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي اَلطَّرِيقِ إِلَى اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاَللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يُوَفِّقَكَ لاِسْتِعْمَالِهِ ثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي رِيَاضَةِ اَلنَّفْسِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي اَلْحِلْمِ، وَثَلاَثَةٌ مِنْهَا فِي اَلْعِلْمِ فَاحْفَظْهَا وَإِيَّاكَ وَاَلتَّهَاوُنَ بِهَا.
قَالَ عُنْوَانُ: فَفَرَّغْتُ قَلْبِي لَهُ، فَقَالَ: أَمَّا اَللَّوَاتِي فِي اَلرِّيَاضَةِ فَإِيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَ مَا لاَ تَشْتَهِيهِ فَإِنَّهُ يُورِثُ اَلْحِمَاقَةَ وَاَلْبَلَهَ، وَلاَ تَأْكُلْ إِلاَّ عِنْدَ اَلْجُوعِ وَإِذَا أَكَلْتَ فَكُلْ حَلاَلاً وَسَمِّ اَللَّهَ وَاُذْكُرْ حَدِيثَ اَلرَّسُولِ: (مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرّاً مِنْ بَطْنِهِ فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ).
وَأَمَّا اَللَّوَاتِي فِي اَلْحِلْمِ فَمَنْ قَالَ لَكَ إِنْ قُلْتَ وَاحِدَةً سَمِعْتَ عَشْراً، فَقُلْ إِنْ قُلْتَ عَشْراً لَمْ تَسْمَعْ وَاحِدَةً، وَمَنْ شَتَمَكَ فَقُلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً فِيمَا تَقُولُ فَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَهَا لِي وَإِنْ كُنْتَ كَاذِباً فِيمَا تَقُولُ فَاللَّهَ أَسْأَلُ أَنْ يَغْفِرَهَا لَكَ، وَمَنْ وَعَدَكَ بِالْجَفَاءِ فَعِدْهُ بِالنَّصِيحَةِ وَاَلدُّعَاءِ.
وَأَمَّا اَللَّوَاتِي فِي اَلْعِلْمِ فَاسْأَلِ اَلْعُلَمَاءَ مَا جَهِلْتَ وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ تَعَنُّتاً وَتَجْرِبَةً وَإِيَّاكَ أَنْ تَعْمَلَ بِرَأْيِكَ شَيْئاً وَخُذْ بِالاِحْتِيَاطِ فِي جَمِيعِ مَا تَجِدُ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَاُهْرُبْ مِنَ اَلْفُتْيَا هَرَبَكَ مِنَ اَلْأَسَدِ وَلاَ تَجْعَلْ رَقَبَتَكَ لِلنَّاسِ جِسْراً قُمْ عَنِّي يَا أَبَا عَبْدِ اَللَّهِ فَقَدْ نَصَحْتُ لَكَ وَلاَ تُفْسِدْ عَلَيَّ وِرْدِي فَإِنِّي اِمْرُؤٌ ضَنِينٌ بِنَفْسِي وَاَلسَّلاَمُ). (بحار الأنوار: ج۱ ص۲۲4)
الله الله هذا فعلاً أدب الإمام جعفر الصادق (ع) الذي كان يؤدِّب قبل أن يعلِّم وأما الآن فقد فقدنا الأخلاق والأدب كله للأسف الشديد وصار الطالب يتعلَّم ليتطاول على خلق الله وربما أول مَنْ يتطاول عليه والده وأهله لأنه صار متعلماً ببعض العلوم وهو لا يدري أنه ربما لم يقترب من ساحل ذلك العلم ونعم ما قاله أمير البيان وفارس الكلام، الإمام علي (ع): (اَلْعِلْمُ نُقْطَةٌ كَثَّرَهَا اَلْجَاهِلُونَ). (عوالي اللئالي: ج4 ص۱۲۹)
عظم الله أجركم يا مؤمنين بالإمام جعفر الصادق (ع) علم الأعلام ونور الأنام في الظلام.
اضف تعليق