ما الذي يحفّز شخص ما للمساعدة في حل مشكلة شخص آخر؟ مع تطور وسائل الحياة، وحصول تغييرات في ثقافة الانسان، دخلت علينا مفاهيم جديدة تحدد طريقة التعامل مع الاشياء وكيفية إصدار الاحكام، لاسيما ما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، فإن السعي لحل مشكلة لشخص أو أسرة، يُترجم على انه نوعاً من "الفضولية"...

ما الذي يحفّز شخص ما للمساعدة في حل مشكلة شخص آخر؟ مع تطور وسائل الحياة، وحصول تغييرات في ثقافة الانسان، دخلت علينا مفاهيم جديدة تحدد طريقة التعامل مع الاشياء وكيفية إصدار الاحكام، لاسيما ما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية، فإن السعي لحل مشكلة لشخص أو أسرة، يُترجم على انه نوعاً من "الفضولية"، وإن كان ثمة مساعدة لانتشال شخص ما من كبوة أو هفوة في حياته، فانه يُعد تبريراً لخطئه، وعليه فإن المبدأ الجديد يقول لنا: "إنها مشكلته"! أو "هذه مشكلتك"!

التعاون قيمة حضارية

ترتقي الأمم في سلّم التطور العلمي والثقافي عندما يكون الافراد فيها مثل شبكة واسعة من الجذور تحت الارض تمتصّ عناصر النمو وتهبها للشجرة الباسقة لتكون مثمرة بعد حين. 

وبنظرة خاطفة على بؤر الازمات الاجتماعية في العالم نجد أن الفردية، والانطوائية، والأنانية هي سيدة الموقف في بلاد ربما ارتقت الى مراتب عليا من التقدم التقني والعلمي، فهي تشيّد ناطحات السحاب الرائعة، وشبكات الطرق والجسور المذهلة، وانتاج الطائرات النفاثة، ووسائل الاتصال الحديث، وحقول علمية متعددة في مجالات الطب والهندسة والفضاء، والطاقة، والتجارة الدولية كل هذا يعود الى جهود فردية لاشخاص بعينهم في الاغلب، فالعالم المبدع او رجل الاعمال الذكي، يعيش في شرنقته الخاصة، لا يقترب اليه الناس العاديون، ولا يعرفون شيئاً عن حياته، وإن تعرض للخسارة او لنكسة ما، لا يجد جسور علاقة تسعفه بمساعدة مادية او معنوية من أحد فيكون المصير؛ الانتحار، او التنحّي جانباً عن ساحة التنافس والسباق في عالم المادة والربح السريع، ويغيب عن الأنظار تماماً.

هذا الشعور "الفرداني" يتم زرعه في مرحلة الطفولة، وتحديداً في السنين الاولى من التعليم، بأن يكون التلميذ حريصاً على درسه وأن يكون همّه المتفوق على أقرانه، ولا عليه بالآخرين، ومع تدرجه في المراحل الدراسية تنمو معه خصلة حب الأنا ليقتفي أثر صاحب المال الذي ينكر امتلاكه للمال، بل ويشهر فقره وإفلاسه لتفادي وصول أيدي المساعدة اليه، او الدائنين، فهو ايضاً يفعل الشيء نفسه عندما ينكر أمام زملائه أنه حصل على درجات عالية في هذا الدرس او ذاك لتحاشى طلب المساعدة من زملائه لتوضيح بعض المسائل الدراسية. 

هذه الأيام نلاحظ حركة جديدة في المجتمع الغربي بطلها مشاهير وأثرياء يتبرعون للأطفال المصابين بأمراض خطيرة، او يرعون مؤسسات خيرية، او يأخذون الطعام الفاضل من المطعم الى الفقراء والمشردين في الشوارع، وحتى إقامة حفلات غناء وعرض أزياء وتخصيص ريعها الى ملاجئ الايتام والمشردين، وهذا ما لم نكن نسمع به في السنوات الماضية، ولنقل أنها صحوة ضمير، وهو أمرٌ حسنٌ البتة، ومن الجدير بمن يمتلك تراث عظيم من قيم التعاون، والمواساة، والايثار، أن يكون أول من المستفيدين، لا أن يعود الى ما تخلّى عنه الآخرون، بدعوى أننا نريد ان نعيش الرفاهية كما عاش الآخرون، غافلين عن أن هذه الرفاهية التي جربها الانسان الغربي كلفته سعادته واستقراره النفسي، وحتى مشاعره الانسانية، فقد اكتشف أنه ليس سوى صامولة في ماكنة اقتصادية كبيرة، قبل ان يتبسم ويتذوق الراحة والانبساط، عليه دفع الضرائب للدولة، والجهد المضاعف للشركات والمصانع والمؤسسات التجارية التي تفكر بأرباحها قبل راحته وحقوقه، فهو في دوامة العمل، ثم العمل، للإبقاء على بضع دولارات في بطاقة الائتمان لتمشية أموره.

ومما نقرأه في تاريخنا -الإسلامي المنسي- أن رجلاً بزازاً تعرض للإفلاس، وكان له على رجل آخ عشرة آلاف درهم، وقبل ان يذهب اليه لحل مشكلته، بادر ذلك الرجل ببيع داره وحمل المال اليه لتسديد دينه وحل مشكلة أخيه المسلم، فسأله عن مصدر المال: هل ورثته؟ أو وهبه أحد اليه؟ او باع عقاراً له، كان الجواب على جميعها بالنفي، وأخبره أنه باع داره من اجل تسديد الدين وحل مشكلة الافلاس والضائقة المالية عنده، فرفض المفلس والمحتاج للمال هذا العمل،و ردّ عليه المال مستشهداً بحديث الامام الصادق، عليه الاسلام: "لا يخرج الرجل من مسقط رأسه بالدَين"، وقال له: اذهب واشتري بها بيتاً آخر لك ولأهلك.

بهذه الروحية كان الاسلام يمثل أعظم حضارة عرفتها البشرية، وكان يبسط جناحية في الآفاق طيلة قرون من الزمن، ومن يتحدث عن بذخ الحكام وظلمهم وامتلاء قصورهم بالاموال والجواري، فان الأزمة كانت في أشخاص، وليس المنظومة الأحكامية والأخلاقية التي كان يجسدها أئمة أهل البيت، عليهم السلام، ومن سار على نهجهم، وهي الحقيقة التي فهمها المفكرون والمؤرخون الغربيون، "فقد كان المسلمون يبذلون الاموال في سبيل تقدم الإسلام، حتى أن بعضهم كان يعطي نصف ماله او اكثر في سبيل تقدم الاسلام، ومن المعلوم أن صفة الكرم والبذل من الصفات التي توجب تقدم الأمة الى الأمام". (عالم الغد- المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه).

حتى لا نحن نعيش في التاريخ

وحتى لا نكرر مصائب وويلات الآباء والأجداد في أحقاب الظلم والطغيان والانحراف عن القيم السماوية، جديراً بنا العودة الى الايمان والأخلاق التي تحلّى بها الأولون وسادوا بها العالم، ولا نبقى متفرجين على ما يفعله الحكام من فساد وانحراف ونهب للثروات، فما نراه اليوم هو نسخة طبق الأصل لما شهده المسلمون الأوائل في العهد الاموي، ثم العباسي، ثم العثماني، وفي جميع الانظمة السياسية التي حكمت الامة طوال القرون الماضية، ما خلا بعض التجارب الحسنة، فالعدل –مثلاً- ليس هيناً على من يجد نفسه في قمة السلطة، ثم تكون هذه السلطة كل حياته وشخصيته فيصنع كل شيء لديمومتها وإن كلف هذا إزهاق أرواح الملايين، والتجاوز على الحرمات والمقدسات. 

ولمن يقرأ التاريخ القديم والحديث يجد أن أول خطوة للحاكم المتشبث بالسلطة لتحقيق أحلامه ومصالحه؛ تمزيق أواصر المجتمع، وتحويله الى مجموعات متباعدة، ثم الى أفراد متباعدين لا يفكر الواحد إلا بنفسه، ليجعل عيون الجميع تتطلع اليه في حياتهم، وما يحصلون عليه من تعيين ومخصصات وامتيازات لحياة جميلة فيها البيت الفخم والسيارة الحديثة والراتب المجزي، أما الآخرون فكلٌ يجب أن "يحل مشكلته بنفسه"، بينما الحديث المأثور عن النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله يقول: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى". نسأل الله ان نكون من المؤمنين الحقيقيين.

اضف تعليق