الحديث عن حرية مطلقة للمعتقد والرأي في الغرب يبدو أمراً شبه وهمي، ومغرق بالمثالية، ويبدو بعيداً عن حقيقة ما يجري على أرض الواقع، بدلالة وجود شواهد كثيرة لا على تقنين هذه الحريات في الغرب فحسب، بل وعلى التضييق عليها أيضا ومصادرتها، وان الفرق بيننا وبينهم...

كثر في الآونة الأخيرة الحديث بين الشباب غالباً عن مصادرة حرية الرأي في العالم الإسلامي، وانفتاح باب المعرفة في الغرب على مصراعيها، وأن هذا هو السبب الأوحد لتأخر شعوبنا وتقدم الغرب، ولن تتقدم شعوبنا إلا إذا ما أطلقنا العنان لكل الآراء ان تعبر عن نفسها بما في ذلك تلك الآراء الصفراء التي تتجاوز على الدين والقيم والمثل والموروث.

والذي أراه أنهم ساذجون واهمون مخدوعون، لأن الحديث عن حرية مطلقة للمعتقد والرأي في الغرب يبدو أمراً شبه وهمي، ومغرق بالمثالية، ويبدو بعيداً عن حقيقة ما يجري على أرض الواقع، بدلالة وجود شواهد كثيرة لا على تقنين هذه الحريات في الغرب فحسب، بل وعلى التضييق عليها أيضا ومصادرتها، وان الفرق بيننا وبينهم أننا نتعامل مع الأمر بمناهجنا المتخلفة وهم وظفوا أرقى المناهج التي لم تعط فرصة لمعترض أن يعترض.

والملاحظ أن الأعم الأغلب من أصحاب تلك الآراء، بل هم بالمطلق من العلمانيين الشباب قليلي الخبرة ومحدودي المعرفة، ممن اتكأوا لا من خلال التجربة والمعايشة وإنما على ما يتم تداوله في المؤلفات الحديثة وشبكة الانترنيت من حديث عن حرية الرأي والتعبير والمعتقد في العالم المعاصر، وأغلب هؤلاء الشباب يعتقدون أنها حرية مطلقة غير مقيدة، ولهذا لا تجد في تلك البلدان من يعترض على من يكتب منتقدا سلوكا أو تصرفا او منهجا دينيا، وتبعا لذلك صاروا يكررون محاولاتهم للاقتباس من تلك المناهج وتعميمها في عالمنا، وهم يرون أن ما يكتبونه بما في كتاباتهم تلك من تهجم ممجوج وتطاول فارغ على الدين ورموزه لا يعني الارتداد والخروج من الدين، ولا معاداته أو الحط من منزلته، أو التعدي على خصوصياته، ولا مصادرة لحريته في التعبير عن نفسه وعقيدته، بقدر كونه مهمة تصحيحية، يهدفون من ورائها ـ بزعمهم ـ توفير حياة أفضل للمجتمعات بعيداً عن سطوة الكهنة ورجال الدين وتعقيداته ونظامه الأبوي ـ في الأقل ـ.

هذا ما يتضح مما جاء في موقع الملحد العراقي والمواقع المشابهة الأخرى على شبكة الانترنيت، فحينما تم إطلاق أول موقع للملحدين العراقيين على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو موقع لا ابتكار فيه، جاء تقليدا سمجا لما فعله الغربيون، هذا التشكيل الذي أسس في 9/10/ 2017 على يد مؤسس الحركة في العراق...، كتبوا: "دينك لك والدنيا للجميع ولا تجعل حريتك مصدر ازعاج للأخرين"، وهو اقتباس مشوه وغير موفق لشعار "الدين لله والوطن للجميع"، الذي يقال إن أول من قاله هو بيتر صموئيل (1911ـ 1996)، وهذا وهم، إذ ذكر الدكتور سمير قصير في كتابه "تاريخ بيروت" أن صحيفة "نفير سورية" التي كان يصدرها بطرس البستاني عام 1860 كان شعارها المطبوع في اعلاها "الدين لله والوطن للجميع". أي أن الصحيفة العربية استخدمته قبل بيتر صموئيل بزمن، بل قيل: إن أول من ردده في البلاد العربية هو عبد الرحمن الكواكبي" (1855ـ 1902) قبل صموئيل، ومنه اقتبس مصطفى صادق الرافعي (1880- 1937)، فذكر القول في خطاب القاه خلال حفل خيري أقيم عام 1916 في القاهرة تحت رعاية شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية، يوم كان عمر بيتر صموئيل خمس سنوات فقط، وقيل: إن سعد زغلول" (1858- 1927)، قاله ضمن خطاب له عام 1919، وبعد هذا التاريخ استخدمه سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى ضد الاحتلال الفرنسي عام 1925 شعارا لثورته، فجاء العلمانيون واقتبسوه، فجعلوه "دينك لك والدنيا للجميع".

وعلى كل حال أجده من حيث العموم شعاراً فيه إجمالٌ كبير، وهو غير متفق عليه، فهناك من سكت عنه، وهناك من رفضه بشدة، وهناك من أيده، فضلا عن ذلك لقي الشعار اعتراضاً من قبل فئات لا تتفق مع العلمانية في توجهها، ولا مع الإلحاد في توجهه. والأكثر أهمية من كل ذلك أنه لم يطبق على أرض الواقع عبر التاريخ الإنساني، فعلى مر التاريخ، وفي كافة النظم المعروفة سواء كانت دينية أم علمانية، كان الدين أداة تستخدم للرحمة والقمع، للبناء والمصادرة، للتربية والتخريب، وكان موئلا للتناقض الغريب، حيث كانت هذه التناقضات تتفاعل على أرض الواقع ضمن سياقات أطر توظيف الدين من قبل الأنظمة الحاكمة ومن قبل أتباع الأديان أنفسهم.

وحتى في عالمنا الإسلامي، وفي أسمى مراحل الوعي الديني، خلال وبعد عصر البعثة لم يكن الدين لله، بل كان للحكام المتسلطين الذين جعلوا الدين لهم وحدهم، بعد أن ركنوا (الله) بعيداً ليصبحوا نوابا عنه وناطقين باسمه، ولهم وحدهم حق وضع الخطط التي تتحكم بالكون.

أما الوطن فهو؛ وبالثوابت المتفق عليها، لم يرق في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني لأن يكون للجميع، فعلى مر التاريخ كانت هناك فئات مغيبة، تشعر أنها بلا وطن، وكان الحكام يصادرون هوية المواطنة من كل من يعترض عليهم أو يناصبهم العداء، فيُسقِطون عنه هويته التي تربطه بالوطن رسمياً ليصبح بلا هوية، ويتحول إلى مشرد يبحث عن وطن، وقد عشنا هذه التجربة المريرة في أيام حكم البعث (1968ـ 2003) وعشناها بعد هذا التاريخ بسبب الطائفية المقيتة. علما أن ذلك لم يكن من خصوصياتنا إذ لا زالت أكبر الدول الغربية والأوربية وأكثرها تشدقا بالعدالة والديمقراطية والمساواة تضم أطيافا لا حصة لها في الوطن، تعيش التشرد والضياع دون أي حق من الحقوق التي يروجون لها في إعلامهم، وهذا بحد ذاته يثبت أن حملة هذا الشعار طوباويون وبعيدون عن الحقيقة لأنهم أضعف من أن ينجحوا في تطبيقه على أرض واقعنا المضطرب المليء بالمفاجئات، بعد ان عجزت عن ذلك أعظم الدول وأكثرها استقرارا وتمسكا بالروتين الحياتي.

يعني هذا أن هناك تعارضا بين الآراء لا يمكن إغفال واهمال أحد طرفيه، وأخذ ما يراه الطرف الآخر على علاته، فحقيقة أن الدين لله من حيث الأصل ليست مِنَّةً من أحدٍ على أحد، بل فرضاً على الجميع. والوطن للجميع من حيث الهدف كلمة واسعة تنضوي على حق وباطل، في الأقل يرى المتدينون إن كان معنى الوطن للجميع نفي الدين من المجتمع وتحجيمه وحبسه وتعطيل دوره في الحياة العامة فهذا باطل، وإن كان معناه أنه يجوز أن يكون حق أتباع الأديان وكل الطوائف والجماعات في بلاد الإسلام المتنوعة مثل حق المسلم في بلاد الإسلام، فهذا حق، ولكن بحدود تراها بعض الفرق الإسلامية، التي تفترض عدم جواز تواجد غير المسلمين فيما نص عليه حديث: "أخرجوا اليهود من جزيرة العرب"، حتى مع اختلافهم في مضمون الحديث، وفي حدود جزيرة العرب، بل وفي صحة الحديث نفسه.

إن ما نتابعه في الشارع العراقي اليوم من عدم استقرار وتخبط بسبب ما تفشى بين الشباب من أفكار غريبة فيه إيماءات كثيرة تنطوي بعضها على خطر يتهدد المجتمع يبعث في أنفسنا القلق لا على الدين فتلك مسألة خاصة بل على بلدنا ومواطننا الذي تتقاذفه الأمواج. والقلق لا يقف عند هذه الإيماءات وحدها، فهناك غير ذلك أمران يقلقاني بشدة هما كثرة المسميات الفلسفية التي تعتاش على طيبة الإنسان وتراهن على نمط تفكيره، وسبب نشأتها وتفشيها في هذا الوقت بالذات، وأنا هنا اقتبس من نانسي عبارتها: "وأنا أحب مثل هذه العبارات اللاذعة في أن تكون محكمة وبارعة فهي تمتعني وتدفعني إلى التفكير"(1) التي قالتها لتصف العبارات التي وجهها توماس بيرنهارد في نقده اللاذع للمرأة. فأنا مثلها أحب العبارات التي أطلقت على جميع هذه الفلسفات لأنها تشعرني بالإثارة، مثلما يشعرني الحديث عن فكرة تأسيسها بالإثارة.

......................................
(1) هيوستن، نانسي، أساتذة اليأس النزعة العدمية في الأدب الأوربي، ترجمة: وليد السويركي، دار نشر كلمة، أبو ظبي ـ الإمارات، 1433هـ ـ 2012م. ص10.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق