إسرائيل بعيدة كثيرًا عن أن تكون قوة مهيمنة إقليميًا. ولا أشك أن قادتها يطمحون إلى ذلك لكن هذا الطموح سيبقى خارج متناولهم إلى الأبد. وهذا يعني أن الأمن طويل الأمد لدولة إسرائيل يعتمد في نهاية المطاف على التوصل إلى تسوية سياسية دائمة مع جيرانها، بما في ذلك الفلسطينيون...
بقلم: ستيفن إم. والت
الحكومة الإسرائيلية تسعى للهيمنة الإقليمية، لكن من غير المرجح أن تنجح في ذلك.
الهجوم الإسرائيلي الواسع على إيران هو الجولة الأحدث في حملتها الرامية إلى القضاء على كل خصومها الإقليميين أو إضعافهم. فبعد هجوم حماس في أكتوبر 2023، شنت إسرائيل حملة وحشية لتدمير الشعب الفلسطيني كقوة سياسية ذات معنى، وهي حملة وصفها كبار منظمات حقوق الإنسان وعدد كبير من الخبراء الأكاديميين على أنها إبادة جماعية. كما دمرت قيادة حزب الله في لبنان عبر غارات جوية وهواتف محمولة مفخخة ووسائل أخرى. وهاجمت الحوثيين في اليمن، وقصفت سوريا ما بعد الأسد لتدمير مخازن الأسلحة ومنع القوى التي تراها خطرة من ممارسة أي نفوذ سياسي هناك.
أما الهجمات الأخيرة على إيران، فهي تهدف إلى ما هو أكثر من مجرد تدمير البنية التحتية النووية لتلك الدولة. فالحد الأدنى من الأهداف الإسرائيلية هو إنهاء المفاوضات حول برنامج إيران النووي؛ وشل قدرة إيران على الرد عبر اغتيال كبار قادتها العسكريين والدبلوماسيين والعلماء؛ وإن أمكن، جرّ الولايات المتحدة إلى الحرب بشكل أعمق. وفي الحد الأقصى، تأمل إسرائيل في إضعاف النظام الإيراني إلى درجة الانهيار.
وبالنظر إلى أن كل هذه الأعمال كانت ناجحة جزئيًا –على الأقل على المدى القصير– فهل يمكننا اعتبار إسرائيل قوة مهيمنة في المنطقة؟ إذا ما عرّفنا الدولة المهيمنة إقليميًا بأنها "القوة العظمى الوحيدة في منطقة معينة، بحيث لا يمكن لأي دولة أخرى (أو مجموعة من الدول) أن تشكل دفاعًا جديًا في اختبار شامل للقوة العسكرية"، فهل تنطبق هذه الصفات على إسرائيل الآن؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل ينبغي أن نتوقع من جيرانها أن يتصرفوا كما تفعل الدول الأخرى عند مواجهة قوة مهيمنة: "أن تعترف بتفوقها وتخضع لها في الأمور المسائل ذات المصلحة الحيوية لها"؟
للوهلة الأولى، تبدو هذه الفرضية بعيدة الاحتمال. فكيف يمكن لدولة عدد سكانها أقل من 10 ملايين نسمة (حوالي 75% منهم من اليهود) أن تهيمن على منطقة شاسعة يسكنها مئات الملايين من العرب المسلمين، بالإضافة إلى أكثر من 90 مليون فارسي؟
لكن الفكرة تبدو أكثر منطقية إذا أخذنا في الاعتبار أن إسرائيل تملك العديد من المزايا مقارنة بجيرانها. فمواطنيها أكثر تعليمًا، ويتمتعون بروح وطنية عالية، وغالبًا ما قادهم زعماء أكثر كفاءة من نظرائهم العرب. كما تحصل إسرائيل على دعم سخي وثابت من جالياتها في الخارج التي تتمتع بثروة ونفوذ سياسي، وتلقت في السابق مساعدات قيّمة من قوى كبرى مثل بريطانيا وفرنسا. أما خصومها العرب، فقد واجهوا انقسامات داخلية، واضطرابات، وانقلابات، وتمزقوا بفعل خلافاتهم البينية.
وعلاوة على ذلك، فإن القوة العسكرية الحديثة تعتمد بشكل أكبر على التفوق التكنولوجي، والتدريب، والقيادة الحاذقة، أكثر من اعتمادها على الأعداد فقط. وقد كانت قوات الدفاع الإسرائيلية دومًا أكثر كفاءة من القوات التي واجهتها. وزادت هذه الميزة مع تزايد الاعتماد على الأسلحة المتطورة والباهظة. ورغم أن حزب الله وحماس أصبحا أكثر قدرة مع الوقت، فإن أياً منهما لم يتمكن من تهديد وجود إسرائيل، أو إلحاق ضرر مماثل لما تسببه إسرائيل لهما. ويعزز من مكانة إسرائيل امتلاكها لترسانة نووية كبيرة، وقدرات استخباراتية مشهودة.
لكن الأهم من ذلك كله هو أن إسرائيل تحصل على دعم هائل وغير مشروط إلى حد بعيد من الولايات المتحدة، التي تدعمها بغض النظر عن تصرفاتها، وتلتزم رسميًا بالحفاظ على "تفوقها العسكري النوعي". وبدون هذه المساعدة، فإن الإسرائيليين – رغم امتلاكهم للأسلحة النووية – سيكون بمقدورهم الدفاع عن أراضيهم، لكن ليس لديهم فرصة حقيقية للهيمنة على المنطقة المحيطة.
وبناءً على ما سبق، فإن فكرة هيمنة إسرائيل على الشرق الأوسط الكبير ليست سخيفة تمامًا. ومع ذلك، سيكون من الخطأ اعتبارها قوة مهيمنة حقيقية في المنطقة.
أولًا، القوة المهيمنة إقليميًا تكون قوية إلى درجة أنها لا تواجه تهديدات أمنية جدية من جيرانها، ولا تقلق من بروز منافس حقيقي في المستقبل القريب. وقد حققت الولايات المتحدة هذا الوضع بحلول مطلع القرن العشرين، إذ انسحبت القوى الكبرى من نصف الكرة الغربي، ولم تعد هناك أي دولة أو تحالف في المنطقة قادر على مضاهاة القوة الاقتصادية والعسكرية الأمريكية. ومع استثناء وجيز لأزمة الصواريخ الكوبية –التي كانت من فعل قوة خارجية (الاتحاد السوفيتي)– فإن الولايات المتحدة لم تواجه تحديًا عسكريًا خطيرًا داخل نصف الكرة الغربي منذ أواخر القرن التاسع عشر. وأتاح لها هذا الوضع المتميز تركيز سياساتها الخارجية والدفاعية على أوراسيا، بهدف منع أي قوة أخرى من بلوغ مكانة مماثلة في أي منطقة استراتيجية أخرى.
أما إسرائيل اليوم، فلا تستوفي هذا المعيار. فالحوثيون ما زالوا في موقع التحدي، والجيش الإسرائيلي ما يزال غارقًا في غزة، رغم الدمار الهائل الذي ألحقه بها. ورغم أن إسرائيل أضعفت حزب الله وحماس بشكل كبير، فإنهما فاعلان غير دولتيْن، ولم يشكلا أبدًا تهديدًا وجوديًا لإسرائيل. كما أنه لا توجد دولة عربية أو تحالف عربي قادر حاليًا على مضاهاة إسرائيل، لكن كلاً من تركيا وإيران تملكان جيوشًا قوية وسكانًا أكبر بكثير، ويمكن لكل منهما الدفاع عن نفسها بشكل فعّال في حال اندلاع حرب شاملة، حتى وإن خسرت في النهاية. وهذا يعني أن إسرائيل لا تستطيع تجاهل هاتين الدولتين أو افتراض أنهما ستخضعان لها. وتوضح مقاومة إيران المستمرة هذا الأمر: فرغم أن ردها على الهجمات الأخيرة لم يكن بنفس حجم الضرر الذي لحق بها، فإنه لم يكن تافهًا، والصراع ما زال قائمًا. ولا توجد أي مؤشرات على أن طهران ستخضع طوعًا لإسرائيل، حتى إن خسرت المعركة الأخيرة. ولهذا السبب وحده، لا يمكن اعتبار إسرائيل قوة مهيمنة إقليميًا.
إضافة إلى ذلك، فإن المبرر الكامل لهذه الهجمات الأخيرة كان الخوف من أن تمتلك إيران يومًا ما سلاحًا نوويًا. ولم يكن الخطر هو أن إيران ستستخدم القنبلة لضرب إسرائيل – وهو عمل انتحاري – بل أن امتلاك إيران للسلاح النووي سيقيد قدرة إسرائيل على استخدام القوة في المنطقة دون رادع. وإن اعتبار القادة الإسرائيليين أن احتمال اضطرارهم للتحلي بضبط النفس يمثل خطرًا، يكشف أنهم لا يملكون نوع "الأمن المجاني" الذي طالما تمتعت به الولايات المتحدة – القوة المهيمنة الوحيدة الحقيقية في العالم.
كما أن النجاحات العسكرية الأخيرة لإسرائيل لم تحل المشكلة الأعمق المتمثلة في الفلسطينيين، الذين يشكلون حوالي نصف سكان الأراضي التي تسيطر عليها. فلم تمنع القدرات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية المتفوقة حركة حماس من قتل مئات الإسرائيليين في أكتوبر 2023، ولم يسهم قتل أكثر من 55 ألف فلسطيني كرد فعل في تقريب إسرائيل من حل سياسي لهذا الصراع. بل على العكس، لقد شوّهت هذه التصرفات صورة إسرائيل عالميًا، وأضعفت الدعم لها حتى من بين حلفائها التقليديين.
والأهم من كل ذلك أن إسرائيل ما تزال تعتمد بشكل كبير على راعيها الأمريكي، الذي يزودها بمعظم الطائرات والقنابل والصواريخ التي تحتاجها لمهاجمة جيرانها، ويوفر لها الحماية الدبلوماسية الدائمة. أما القوة المهيمنة الحقيقية، فلا تحتاج إلى الاعتماد على الآخرين للسيطرة على محيطها، بينما إسرائيل تفعل ذلك. ورغم أن الدعم الأمريكي لها كان صلبًا لعقود بفضل نفوذ جماعة ضغط داخلية قوية، فإن العلاقة بين البلدين شهدت مؤخرًا بعض التوتر، ومن المرجح أن تزداد صعوبة مع تراجع المكانة الدولية للولايات المتحدة. وإن انتهى القتال الحالي إلى جر الولايات المتحدة إلى الصراع، فإن مزيدًا من الأمريكيين – بما فيهم مؤيدو ترامب الذين ظنوا أنه سيبقي البلاد في سلام – سيدركون الثمن الباهظ الذي تدفعه أمريكا من أجل "العلاقة الخاصة" مع إسرائيل.
وأخيرًا، فإن الهيمنة الإقليمية الدائمة تتطلب قبول الدول المجاورة (وأحيانًا ترحيبها) بموقع القوة المهيمنة. وإلا، فإنها ستظل في قلق دائم من عودة المعارضة، وستضطر إلى اتخاذ إجراءات متكررة لقمعها. ولكي تجعل هذه المكانة مقبولة للآخرين، ينبغي على القوة المهيمنة أن تتصرف ببعض ضبط النفس، كما فعل الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت من خلال سياسة "الجار الصالح" تجاه أمريكا اللاتينية. ومن المفيد تذكر أن القوى التي حاولت أن تصبح مهيمنة إقليميًا، مثل فرنسا النابليونية وألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية، حققت الهيمنة مؤقتًا، لكنها فشلت في تثبيت مكاسبها، وانهارت في النهاية أمام تحالفات أقوى.
لكن معاملة الجيران بضبط النفس لم تكن من خصائص إسرائيل أبدًا، ومع تصاعد نفوذ القوى اليمينية والمتطرفين الدينيين فيها، فإن هذا الاحتمال يصبح أكثر بعدًا. وعند جمع كل ما سبق، نجد أن إسرائيل بعيدة كثيرًا عن أن تكون قوة مهيمنة إقليميًا. ولا أشك أن قادتها يطمحون إلى ذلك – ولم لا؟ – لكن هذا الطموح سيبقى خارج متناولهم إلى الأبد. وهذا يعني أن الأمن طويل الأمد لدولة إسرائيل يعتمد في نهاية المطاف على التوصل إلى تسوية سياسية دائمة مع جيرانها، بما في ذلك الفلسطينيون. وهذا يُذكرنا مرة أخرى بأن الأمن الدائم يعتمد في نهاية المطاف على السياسة، وليس على القوة وحدها.
اضف تعليق