الإعلام يؤدي دورًا مهمًا في بث الوعي الحقيقي ضد المستبد الغاشم، فهو ليس مجرد حق عادي، بل هو مقياس لقياس حيوية النظام الديمقراطي ومدى ما يتمتع به من عناصر الحياة والديمومة. لقد حمل بعض الإعلاميين المسؤولية على ترامب، مطالبين بتنقية الحزب من التطرف الشعبوي...

النظام الطبيعي للكون والحياة قائم على تعددية واضحة. ويكفي للبرهنة على صحة الفرضية المتقدمة أن الأكوان المختلفة تشتمل على مجرات متعددة، وأن الكون الذي يضمنا تكتنفه قوى مختلفة كالجاذبية والكهرومغناطيسية بما تتميزان كلتاهما من خصائص مباينة أو مناقضة للأخرى. ولولا وجود هذا التعدد في نظامنا الشمسي لاستحال وجود حياة من حيث الأصل.

وعلماء الطبيعة من جهتهم يؤكدون أهمية التعدد الحيوي للكائنات المختلفة، ويتفقون على حقيقة أن انقراض أحد أنواع الموجودات من وجه البسيطة له تداعياته الضارة على سائر الأنواع الأخرى بل على الوجود بأسره. 

ومن الناحية الفكرية فلا يمكن تصور وجود حوار أو تطور أو حتى مجرد طرح تساؤل فلسفي من دون وجود تعددية في نطاق النظريات والآراء. والتعددية سواء أكانت فكرية سياسية أو اجتماعية أو ثقافية مطلوبة في كل زمان ومكان، على أن التعددية السياسية على وجه الخصوص تتضاعف أهميتها قياسًا بغيرها.

من حيث إن الإنسان ميّال بطبعه للاستبداد برأيه حتى مع علمه بصواب المنطق المعارض لرأيه. وفي هذا السياق يُروى عن عبد الملك بن مروان أنه أطال يومًا خطبة صلاة الجمعة حتى كادت الشمس أن تغيب، فبادره أحدهم بما مفاده أن الوقت لا ينتظرك وأن الرب لا يعذرك فما كان منه إلا ردّ عليه بالقول: ((لا نجهل ما تعلم))، ومع ذلك أمر الجند بضرب رأسه!

وهذه القصة التي يوردها نقلة التراث لها أمثلة لا حصر لها في عالم اليوم لاسيما في البلدان التي لا تقيم التعددية السياسية وزنًا. ولا يخفى أن روايتها وإذاعتها بين الناس ينطوي على آثار إيجابية وإن كانت تأتي أكلها على المدى البعيد؛ ويكفي في بيان بُعدها الإيجابي أنها تؤلّب العقول الواعية، والنفوس النقية ضد المستبد الغاشم، وتنتصر لأصحاب الكلمة الحرّة، ولو بعد حين.

ومن هنا يمكن تلمس الدور المهم الذي يؤديه الإعلام في بثّ الوعي الحقيقي بين عموم الناس، لاسيما إذا كان هذا الإعلام مسندًا بنظام قانوني وقضائي عادل، إذ الإعلام هو مجسّ الديمقراطية الحقيقية، وهو ليس مجرد حق عادي، بل هو مقياس لمدى ما يتمتع به النظام الديمقراطي من عناصر الحياة والديمومة.

ونستطيع أن نستدل على الفكرة السابقة من التاريخ القريب للولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها بلد الديمقراطية الأول كما هو شائع، وكما هو في الحقيقة والواقع إلى حد كبير، لاسيما في ما يتصل بالداخل الأمريكي. ففي ظهيرة يوم السادس عشر من شهر كانون الثاني سنة 2018 عقد الكونغرس الأمريكي جلسة للمصادقة على فوز (جو بايدن) فما كان من (ترامب) إلا أن ألقى خطابًا حماسيًا حث فيه أنصاره على القتال دفاعًا عن حقه المستلب!

وإثر ذلك، قام آلاف من أنصاره بمسيرة نحو مبنى (الكابيتول)، واقتحموا الحواجز، ثم دخلوا المبنى عنوة وقد أسفرت الحادثة عن مقتل خمسة أشخاص، وجرح العشرات. ومحل الشاهد هنا أن بعض كبار الصحفيين والإعلاميين المحسوبين على الحزب الجمهوري خرجوا بتصريحات وتعليقات نالت من دونالد ترامب بصرف النظر عن كونه عضوًا في الحزب الذي ينتمون إليه.

ومن أبرزهم (كريس والاس) الذي وصف الحادثة بأنها "جريمة ضد الديمقراطية"، و(بريت باير) الذي وصف اقتحام الكابيتول بأنه "عار وطني"، و(جورج ويل) الذي طالب بمحاكمة ترامب سياسيًا وجنائيًا، و(بيل كريستول) الذي وصف ترامب بأنه خطر على البلاد، وطالب بإدانته وعزله حتى بعد تركه السلطة.

وفي الجملة فإن عددًا من المشتغلين في الصحافة والإعلام من المحسوبين على حزب دونالد ترامب حملوه شخصيًا المسؤولية عن هذا الخرق، وطالبوا الحزب الجمهوري بتنقيته من التطرّف الشعبوي الذي يقوده أنصار الرئيس الخاسر فيما بات يسمى بالترامبية. وحتى في الأحداث التي تشهدها ولاية كاليفورنيا الأمريكية حاليًا، وبصرف النظر عن التكهنات التي تشير إلى ضلوع الحزب الديمقراطي بتأجيجها، ولا سيما بعض اليهود النافذين.

فقد ظهرت دعوات من إعلاميين ومحللين (جمهوريين) تشجب إرسال ترامب الحرس الوطني إلى هذه الولاية معتبرين ذلك تهديدًا للتوازن الديمقراطي اللامركزي الذي هو السمة الأساسية في النظام السياسي الأمريكي منذ تأسيسه عام 1789، أي مع إقرار الدستور الأمريكي، بل إن هذا النظام الذي يعلي مكانة أمريكا على سائر الديمقراطيات الغربية يرجع تاريخيًا إلى أبعد من ذلك التاريخ أي إلى إعلان الاستقلال عام 1776. وهو الأمر الذي يعده هؤلاء ركيزة ثابتة من ركائز الدولة الأمريكية، وغير مسموح بتاتًا لأي حكومة سواء أكانت جمهورية أو ديمقراطية أن تجرؤ على محاولة زعزعتها.

اضف تعليق