هنالك تشريعات مقيدة ومتناقضة تعطي مظاهر القمع رغم وجود النص ففي كثير من الدول، توجد تشريعات تُقيّد حرية التعبير بذرائع فضفاضة مثل "تهديد الأمن القومي"، أو "إهانة مؤسسات الدولة"، أو "نشر الأخبار الكاذبة"، وهذه القوانين تُستعمل كأدوات لتكميم الأفواه، وتُفسّر بمرونة مفرطة من قبل السلطات لتجريم التعبير المشروع...
تُعدّ حرية التعبير من أبرز ركائز الديمقراطية الحديثة، وأحد الأعمدة الأساسية لحقوق الإنسان كما أقرّتها المواثيق الدولية والدساتير الوطنية، فهي ليست مجرد حق فردي، بل أداة جوهرية لضمان الشفافية، والمساءلة، والتعددية الفكرية، ومشاركة المواطنين في الحياة العامة، غير أنّ المفارقة الكبرى تكمن في التناقض الصارخ بين النصوص الدستورية التي تكفل حرية التعبير والواقع العملي الذي يشهد انتهاكات ممنهجة لهذه الحرية.
فبينما تُزيّن دساتير العديد من الدول بنصوص تُعلي من شأن هذا الحق، يُمارَس على الأرض قمعٌ صريح أو مبطن لكل صوت نقدي أو مغاير، في هذا السياق، يهدف هذا المقال إلى تحليل هذه المفارقة، واستعراض أبرز آليات القمع التي تُفرّغ النص من مضمونه، مع تسليط الضوء على بعض النماذج التطبيقية.
حرية التعبير منصوص عليها في المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، التي تنص على أن “لكلِّ شخصٍ الحقُّ في حرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّية اعتناق الآراء دون أيِّ تدخُّل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقِّيها وإذاعتها بأيِّ وسيلةٍ كانت”. كما أكدت العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية (1966) في المادة ذاتها هذا الحق مع إمكانية إخضاعه لبعض القيود الضرورية، شريطة أن تكون محددة بالقانون وضرورية لحماية النظام العام أو حقوق الآخرين، كما أنّ معظم الدساتير في العالم العربي والعالم النامي تُعلن حرية التعبير كحق مكفول.
ففي مصر مثلًا، تنص المادة (65) من دستور 2014 على أن: "حرية الفكر والرأي مكفولة"، وفي تونس تنص المادة (31) من دستور 2014 على أن: "حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة ولا يجوز ممارسة رقابة مسبقة عليها"، وفي العراق تنص المادة (38) من دستور 2005 على أن: "تكفل الدولة بما لا يخل بالنظام العام والآداب: أولا- حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل"، لكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل هذه النصوص تُترجم إلى واقع فعلي؟
ولكن بالمقابل نجد أنّ هنالك تشريعات مقيدة ومتناقضة تعطي مظاهر القمع رغم وجود النص ففي كثير من الدول، توجد تشريعات تُقيّد حرية التعبير بذرائع فضفاضة مثل "تهديد الأمن القومي"، أو "إهانة مؤسسات الدولة"، أو "نشر الأخبار الكاذبة"، وهذه القوانين تُستعمل كأدوات لتكميم الأفواه، وتُفسّر بمرونة مفرطة من قبل السلطات لتجريم التعبير المشروع، كما تمارس السلطات أشكالًا متعددة من الرقابة على وسائل الإعلام، سواء عبر الرقابة المباشرة، أو من خلال التحكم في التراخيص والتمويل، أو عبر الترهيب والسجن.
كما توسعت الرقابة لتشمل الفضاء الرقمي، حيث تُراقب الحسابات الشخصية، وتُستخدم قوانين الجرائم الإلكترونية لملاحقة النشطاء، وتتعرض الشخصيات العامة، الصحفيون، المثقفون، ونشطاء المجتمع المدني للملاحقة والسجن بسبب آراء نشروها في مقالات أو على مواقع التواصل، وغالبًا ما تُحاكم هذه القضايا أمام محاكم غير مختصة، أو تُستخدم فيها اتهامات جنائية لا علاقة لها بالرأي، وفي أحيان كثيرة، يُستخدم الدين أو الأخلاق كسياج لتقييد التعبير، خاصة في القضايا المتعلقة بالفكر الحر.
ومن نتائج التناقض بين النص والتطبيق يحدث فقدان الثقة بالمؤسسات فحين يرى المواطن أن النصوص الدستورية غير مفعّلة، وأن القضاء لا يحمي حرية التعبير، يتولد شعور عام بانعدام العدالة، ويفقد النظام السياسي شرعيته الأخلاقية، كذلك انكماش المجال العام والخوف من العقوبة يؤدي إلى تراجع الأصوات الحرة، وتقوقع الفاعلين الاجتماعيين والثقافيين، مما يُضعف مناعة المجتمع ضد الاستبداد، ويُحوّل النقاش العام إلى صدىً لأصوات السلطة وحدها، ليس هذا فقط أنما قد تحدث هجرة فكرية أو حالة من الصمت القسري يؤدي التضييق على حرية التعبير إلى هجرة الكفاءات، وتجميد العقول، واستقالة الأفراد من الشأن العام، إما بالهروب خارج الوطن، أو بالانكفاء إلى الصمت الذاتي.
وفي هذا السياق نستعرض نماذج تطبيقية ففي تركيا مثلًا، تُلاحق السلطات آلاف الأفراد سنويًا بتهمة "إهانة الرئيس" بموجب المادة 299 من قانون العقوبات التركي، وفي مصر تم حجب مئات المواقع الصحفية منذ 2017 دون قرارات قضائية واضحة، كما يُستخدم قانون مكافحة الإرهاب لتوقيف الصحفيين.
ولأجل فرض حماية فعلية لحرية التعبير نرى ضرورة مواءمة التشريعات مع المعايير الدولية فلابد من مراجعة القوانين الوطنية بما يضمن انسجامها مع الالتزامات الدولية في مجال حقوق الإنسان، وإلغاء العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر والرأي، واستبدالها بغرامات أو إجراءات تأديبية مدنية عند الضرورة، وضمان استقلال القضاء حتى يتمكن من حماية حرية التعبير دون خضوع لتوجيهات سياسية، كذلك إشاعة ثقافة الحوار والتعدد عبر التعليم والإعلام، لتحصين المجتمع من خطابات الكراهية، دون الانزلاق إلى قمع الرأي.
ختامًا- إن حرية التعبير، مهما زُيّنت بها النصوص، لا تعني شيئًا إن لم تجد طريقها إلى التطبيق العملي، والمفارقة المؤلمة أن الأنظمة التي تُشهر دساتيرها كمظهر من مظاهر الحداثة، هي نفسها التي تمارس أسوأ أشكال القمع باسم الأمن أو النظام، لا تتحقق الكرامة الإنسانية إلا حين يُكفل للفرد أن يُعبّر بحرية عن رأيه دون خوف، ولا تُبنى الديمقراطية إلا حين تتعدد الأصوات وتتقاطع الآراء، وإذا بقيت حرية التعبير مجرد حبر على ورق، فإن النص الدستوري لا يعدو أن يكون ستارًا رقيقًا يُخفي وجهًا سلطويًا قبيحا.
اضف تعليق