q

لا يمكن أن تترسخ المواطنة كمفهوم في ذهنية الفرد، ومن ثم تتحول إلى سلوك فعلي على أرض الواقع، ما لم يتم الالتفات إلى تعزيز التعددية الفكرية، وأن لا يسيطر فكر أحادي ويفرض هيمنته المطلقة على طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع؛ لأن هذه العلاقة تمثل الوعاء الذي سيحتوي المواطنة التي ستتفرع منها المسميات المرتبطة بها والتي تتشكل منها القيم المجتمعية المختلفة، بمعنى أن المواطنة هي الوعاء الثقافي لشكل هذه العلاقة.

وبطبيعة الحال، ينبغي للعلاقة بين الفرد ومجتمعه ان تقوم على هوية اجتماعية تقدم للأفراد سبل معرفة توجهاتهم ووجهات نظرهم، ومع تعدد الهويات؛ تتعدد وجهات النظر والرؤى، وتنشأ بينهما علاقة تكاملية؛ لأنها جزء لا يتجزأ من كياننا ووجودنا، وتمثل معانياً متعددة رائدها التوازن في العلاقة بين هوية وأخرى؛ للوصول إلى أعلى مراحل التعايش والاعتدال في حياة متماسكة.

وقد يحدث العكس في حال هيمنة الهوية الأحادية، يقول (بيكو باريك) في كتابه (سياسة جديدة للهوية) : "فعندئذ يرى الأفراد أنفسهم ومجتمعهم والعالم من منظورهم الوحيد، ولا يخفقون في ملاحظة جوانب متعددة منهم فحسب، لكنهم يتخذون وجهة نظر منحرفة ومشوهة عما يفعلون. هم يقسمون النوع البشري على محور واحد، ويرون الأفراد والجماعات إما أصدقاء أو أعداء، ويتجاهلون عامة الناس وروابطهم المتداخلة. وبما أن كل مالديهم هو هوية واحدة، فقد أصبحت تستحوذ عليهم ويتشبثون بها باستماتة، ويخشون باستمرارمن أن قهرها أو اختفائها قد يزعزع استقرار حياتهم، ويجردهم من جميع المعاني وهم يصونونها بشدة ضد التهديدات الخارجية، ويطهرونها من العناصر الداخلية الغريبة، متخذين وجهة نظر مبسطة جداً وغير مستدامة، وعوضاً عن أن يمتلكوا هوية، فإنها تمتلكهم"1.

إن الدور الذي تلعبه الثقافة، والدور الذي يلعبه العلم، والنظام التربوي؛ هو ما يجب أن نعول عليه في قضيتنا التي نناقشها هنا وهي قضية المواطنة، ولابد لنا أن نولي اهتماماً مضاعفاً في قضية تنمية الأجيال على أسس صحيحة متخلصة من شوائب الماضي ومن عقده ومخلفاته، خصوصاً تلك التي أشعلت المنطقة وهددت قيم السلم والتسامح والتعايش، وصار لمظاهر العنف الحضور الأبرز. وأول ما يجب البداية به هو تطوير الأنظمة التعليمية بما ينسجم والنظرة العصرية للحريات ، فالحصول على الموارد البشرية والطبيعية والمفكرين والمثقفين ؛ لا يمكن أن ينتج مواطنة من دون أن يكون هناك أساس لنظام تعليمي وتربوي يهتم بتنشئة الأجيال، مدعوماً بمجتمع مدني متطور، ونظام ديموقراطي يرى الديموقراطية من خلال مفهومها الحقيقي وليس من خلال نظرته المعتمدة لمصالح فئات أو أشخاص أو إيديولوجيات، ولعل تجربة سقوط الاتحاد السوفياتي السابق ماثلة أمامنا وهي الدولة العظمى التي كانت تمثل مع الولايات المتحدة الأمريكية قوتان عالميتان كبيرتان، فمع كل ما تمتلكه من موارد سقطت ؛ بسبب نظرتها الضيقة التي كانت ترى في غير الشيوعي أو غير المنسجم مع الشيوعية عدواً يهدد النظام، وبذلك قلصت من فرص الانفتاح على الطاقات الانسانية الخلاقة والمبدعة والتي ستقود إلى مجتمع متطور ومزدهر. لذلك يلزم الاستفادة من التجارب السابقة، والعمل على إيجاد نظام تربوي لا يعتمد تذويب الفرد في الجماعة على حساب طاقاته وقدراته، نظام لا يقدم الجماعات على الأفراد حسب منطق الانقياد الأعمى سياسياً وفكرياً واقتصادياً وثقافياً.

وطالما نحن بصدد الدور الثقافي في تعزيز المواطنة؛ لا بد لنا من الخوض في المسؤولية التي تقع على عاتق النخبة المثقفة وتأثيرها الذي بدا ينحسر؛ لأسباب تتعلق بممارسة الفوقية تارة، أو تُغَلِّب مصالح ما تتبناه من أفكار وإيديولوجيات حتى وإن كانت على حساب الواقع المجتمعي المرتبط بمصير المواطنين. علينا أن ندرس هذا الانحسار المخيف للدور النخبوي إذ ليس من المنطقي أن يكون المثقف على هذه الدرجة الضئيلة من الشعور بالمسؤولية، ونحن نطالب بترسيخ المواطنة وتبنيها سلوكياً من قبل المواطنين البسطاء؛ لأن القسمة هنا ستكون ضيزى بما لا يقبل الشك.

لسنا هنا ضد أن يتبنى المثقف فكراً معيناً، أو حتى أن يكون له انتماء سياسي؛ لكن ليس على حساب الهم العام. فلنا أن نتخيل حجم الكارثة الفكرية والمعرفية لو أن مثقفاً نخبوياً انخرط في صفوف حزب يقود السلطة، ودافع بشراسة عن سياسات حزبه التي قد توصل البلاد إلى الحافات المخيفة من الخراب. ومثل هذا التخيل قابل للتحقق في الواقع العراقي إن لم يكن متحقق فعلاً، خصوصاً في مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيدي سياسات الحكومة ومعارضيها حيث أن الطرفين متشددان في قضية الدفاع عن والانتقاص من ، وشكل الصراع تحكمه الإيديولوجيا وليس المصلحة العامة أو مصير الهوية الوطنية التي ينبغي أن تكون في المقام الأول.

إن مثل هذا النمط من المثقفين، ليس لنا إلا أن نصنفه على أنه بيدق تحركه السلطات أو الإيديولوجيات، وآخر شيء يمكن أن يتم التفكير به هو قضية الارتقاء بوعي المواطن.

--------------------------------
1:بيكو باريك، سياسة جديدة للهوية، ترجمة وتقديم: حسن محمد فتحي، ص50

اضف تعليق