تبقى العشيرة جزءًا من الواقع الاجتماعي العراقي، لكن المطلوب اليوم هو تفكيك النزعة العشائرية بوصفها بنية فكرية وسلوكية، والعمل على إحلال قيم المواطنة والقانون محلها. فبدون ذلك، ستظل الدولة العراقية مرتهنة لبُنى ما قبل الدولة، ويظل مشروع الدولة الحضارية الحديثة مؤجَّلًا...

تُعدّ العشيرة مكوّنًا اجتماعيًا أصيلًا في البنية التاريخية العراقية، وقد أدّت أدوارًا متباينة عبر العصور: من الحماية والتنظيم إلى التمرّد والمقاومة، ومن الولاء للدولة إلى التصدّي لها. لكن تحوّل العشيرة من رابطة اجتماعية إلى نمط تفكير سياسي وسلوك جمعي هو ما يمكن أن نسمّيه “النزعة العشائرية”، أي تغليب الانتماء القبلي على الانتماء الوطني، واعتماد معايير العرف على معايير القانون، وتقديم الولاء للعشيرة على حساب الدولة.

أولًا: الجذور التاريخية للنزعة العشائرية

تعود جذور النزعة العشائرية في العراق إلى أربعة عناصر متداخلة:

 1. البنية القبلية القديمة: حيث شكّلت القبائل مصدر السلطة والتنظيم في غياب الدولة، لا سيما في العهد العثماني.

 2. ضعف مؤسسات الدولة الحديثة: منذ نشوء الدولة العراقية عام 1921، فشلت الحكومات المتعاقبة في ترسيخ الانتماء للدولة بوصفها الحاضن الأعلى، ما ترك فراغًا ملأته العشيرة.

 3. الأنظمة التسلطية: استخدمت بعض الأنظمة العشائريةَ أداةً لضبط المجتمع أو لخلق ولاءات سياسية، ما عزّز مكانتها على حساب الدولة.

 4. سقوط الدولة المركزية بعد 2003: أدّى انهيار مؤسسات الدولة بعد الاحتلال الأمريكي إلى بروز العشيرة كبديل عن القانون في حل النزاعات وحفظ الأمن وتوزيع النفوذ.

ثانيًا: مظاهر النزعة العشائرية اليوم

تشمل النزعة العشائرية في العراق اليوم عدة مظاهر مقلقة:

 التدخل في القضاء عبر “الدگة العشائرية” وفرض التسويات خارج القانون

التمييز بين المواطنين على أساس الانتماء القبلي أو الطائفي

تحجيم مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية والمدنية

التأثير على الانتخابات والبرلمان من خلال الزعامات القبلية

الترويج لقيم الثأر والعرف بدل قيم القانون والمواطنة

ثالثًا: أثر النزعة العشائرية على مشروع الدولة الحضارية الحديثة

مشروع الدولة الحضارية الحديثة الذي أطرحه يقوم على مبادئ المواطنة، وسيادة القانون، والمساواة، والاحتكام إلى المؤسسات، وتكافؤ الفرص. وكل هذه القيم تصطدم جوهريًا بالنزعة العشائرية، التي تعيد تعريف الهوية والانتماء والمصلحة العامة على أسس ما قبل-دولتية.

إن استمرار النزعة العشائرية يعرقل:

تحقيق المواطنة المتساوية: إذ تقدَّم روابط الدم على الحقوق المدنية

بناء دولة المؤسسات: حيث يُحتكم إلى شيخ العشيرة بدل القاضي

ضبط الأمن عبر القانون: لأن العرف العشائري يشجّع الردّ الفردي والثأري

صياغة سياسات عامة عقلانية: لأن النفوذ العشائري يُدخل المحاصصة القبلية على مستوى القرارات المحلية والمركزية

رابعًا: نحو تحوّل حضاري في وظيفة العشيرة

لا يعني نقد النزعة العشائرية معاداة العشيرة كمكوّن اجتماعي، بل العكس: يمكن للعشيرة أن تندمج في مشروع الدولة الحضارية الحديثة من خلال إعادة تعريف دورها، لتصبح:

حاضنة للقيم الاجتماعية الإيجابية: الكرم، النخوة، حماية الضعيف

شريكًا في السلم الأهلي لا بديلاً عن القانون

قوة اجتماعية داعمة للمواطنة لا مناقضة لها

ولتحقيق ذلك، نحتاج إلى إصلاح ثقافي–تربوي عميق، وسياسات متدرجة تنقل العراق من مرحلة المجتمع العشائري إلى مرحلة المجتمع المدني الحضاري، دون صدام، بل عبر التحوّل التوافقي والتاريخي.

خاتمة

تبقى العشيرة جزءًا من الواقع الاجتماعي العراقي، لكن المطلوب اليوم هو تفكيك النزعة العشائرية بوصفها بنية فكرية وسلوكية، والعمل على إحلال قيم المواطنة والقانون محلها. فبدون ذلك، ستظل الدولة العراقية مرتهنة لبُنى ما قبل الدولة، ويظل مشروع الدولة الحضارية الحديثة مؤجَّلًا.

اضف تعليق