وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره في الأعمال أن يكف عن المحظورات، ويسمى الكف منها (ورعا)، فإن زادت قوته كف عن الشبهات، ويسمى ذلك (تقوى)، إذ التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، وقد يحمله على ترك ما لا بأس به مخافة ما به...
الخوف على نوعين: (أحدهما) مذموم بجميع أقسامه، وهو الذي لم يكن من الله ولا من صفاته المقتضية للهيبة والرعب، ولا من معاصي العبد وجناياته، وقد مر ذكره في الموضوع السابق.
و(ثانيهما) محمود وهو الذي يكون من الله ومن عظمته ومن خطأ العبد وجنايته، وهو من فضائل القوة الغضبية، إذ العاقلة تأمر به وتحسنه، فهو حاصل من انقيادها لها.
وللنوع الثاني من الخوف أقسام:
(الأول) أن يكون من الله سبحانه ومن عظمته وكبريائه، وهذا هو المسمى بالخشية والرهبة في عرف أرباب القلوب. (الثاني) من جناية العبد باقترافه المعاصي. (الثالث) أن يكون منهما جميعا. وكلما ازدادت المعرفة بجلال الله وعظمته وتعاليه وبعيوب نفسه وجناياته، ازداد الخوف، إذ إدراك القدرة القاهرة والعظمة الباهرة والقوة القوية والعزة الشديدة، يوجب الاضطراب والدهشة. ولا ريب في أن عظمة الله وقدرته وسائر صفاته الجلالية والجمالية غير متناهية شدة وقوة ويظهر منها على كل نفس ما يطيقه ويستعد له. وأنّى لأحد من أولي المدارك أن يحيط بصفاته على ما هي عليه، فإن المدارك عن إدراك غير المتناهي قاصرة. نعم، لبعض المدارك العالية أن يدركه على الإجمال.
مع أن ما يظهر للعقلاء من صفاته ليس هو من حقيقة صفاته، بل هو غاية ما تتأدى إليه عقولهم ويتصور كما لا. ولو ظهر قدر ذرة من حقيقة بعض صفاته لأقوي العقول وأعلى المدارك، لاحترق من سبحات وجهه، وتفرقت أجزاؤه من نور ربه. ولو انكشف من بعضها الغطاء لزهقت النفوس وتقطعت القلوب، فغاية ما للمدارك العالية من العقول والنفوس القادسة، أن يتصور عدم تناهيها في الشدة والقوة، وكونها في الكمال والبهاء غاية ما يمكن ويتصور ويحتمله ظرف الواقع ونفس الأمر، كما هو الشأن في ذاته سبحانه.
وإدراك هذه الغاية أيضا يختلف باختلاف علو المدارك، فمن كان في الدرك أقوى وأقدم كان بربه أعرف، ومن كان به أعرف كان منه أخوف، ولذا قال تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) الفاطر 28. وقال سيد الرسل: (أنا أخوفكم من الله). وقد قرع سمعك حكايات خوف زمرة المرسلين ومن بعدهم من فرق الأولياء والعارفين، وعروض الغشيات المتواترة في كل ليلة لمولانا أمير المؤمنين عليه السلام. وهذا مقتضى كمال المعرفة الموجب لشدة الخوف، إذ كمال المعرفة يوجب احتراق القلب. فيفيض أثر الحرقة من القلب إلى البدن بالنحول والصفار والغشية والبكاء، وإلى الجوارح بكفها عن المعاصي وتقييدها بالطاعات تلافيا لما فرط في جنب الله ومن لم يجتهد في ترك المعاصي وكسب الطاعات فليس على شيء من الخوف، ولذا قيل: ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه، بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه.
وقال بعض الحكماء من خاف شيئا هرب منه، ومن خاف الله هرب إليه، وقال بعض العرفاء: لا يكون العبد خائفا حتى ينزل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمي مخافة طول السقام. وإلى الصفات بقمع الشهوات وتكدر اللذات، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة، كما يصير العمل مكروها عند من يشتهيه إذا عرف كونه مسموما، فتحترق الشهوات بالخوف، وتتأدب الجوارح، ويحصل في القلب الذبول والذلة والخشوع والاستكانة، وتفارقه ذمائم الصفات، ويصير مستوعب الهم يخوفه والنظر في خطر عاقبته، فلا يتفرغ لغيره، ولا يكون له شغل إلا المجاهدة والمحاسبة والمراقبة والضنة بالأنفاس واللحظات، ومؤاخذة النفس في الخطرات والكلمات، ويشتغل ظاهره وباطنه بما هو خائف منه لا متسع فيه لغيره، وكما أن من وقع في مخالب ضاري السبع يكون مشغول الهم به ولا شغل له بغيره.
وهذا حال من غلبه الخوف واستولى عليه، كما جرى عليه جماعة من الصحابة والتابعين ومن يحذوهم من السلف الصالحين. فقوة المجاهدة والمحاسبة بحسب شدة الخوف الذي هو حرقة القلب وتألمه، وهو بحسب قوة المعرفة بجلال الله وعظمته وسائر صفاته وأفعاله، وبعيوب النفس وما بين يديها من الأخطار والأهوال.
وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره في الأعمال أن يكف عن المحظورات، ويسمى الكف منها (ورعا)، فإن زادت قوته كف عن الشبهات، ويسمى ذلك (تقوى)، إذ التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه، وقد يحمله على ترك ما لا بأس به مخافة ما به يأس، وهو الصدق في التقوى، فإذا انضم إليه التجرد للخدمة، وصار ممن لا يبني ما لا يسكنه، ولا يجمع ما لا يأكله ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنه يفارقها، ولا يصرف إلى غير الله نفسا عن أنفاسه فهو (الصدق)، ويسمى صاحبه (صديقا)، فيدخل في الصدق التقوى، وفي التقوى الورع، وفي الورع العفة، لأنها عبارة عن الامتناع من مقتضى الشهوات. فإذن يؤثر الخوف في الجوارح بالكف والأقدام.
بم يتحقق الخوف
إعلم أن الخوف لا يتحقق إلا بانتظار مكروه، والمكروه إما أن يكون مكروها في ذاته كالنار، أو مكروها لإفضائه إلى المكروه في ذاته كالمعاصي المفضية إلى المكروه لذاته في الآخرة، ولا بد لكل خائف أن يتمثل في نفسه مكروه من أحد القسمين، ويقوى انتظاره في قلبه حتى يتألم قلبه بسبب استشعاره ذلك المكروه، ويختلف مقام الخائفين فيما يغلب على قلوبهم من المكروهات المحظورة: فالذين يغلب على قلوبهم خوف المكروه لذاته، فإما أن يكون خوفهم من سكرات الموت وشدته وسؤال النكيرين وغلظته، أو عذاب القبر ووحدته وهول المطلع ووحشته، أو من الموقف بين يدي الله وهيبته والحياء من كشف سريرته، أو من الحساب ودقته والصراط وحدته، أو من النار وأهوالها والجحيم وأغلالها، أو الحرمان من دار النعيم وعدم وصوله إلى الملك المقيم أو من نقصان درجاته في العليين وعدم مجاورته المقربين أو من الله سبحانه بأن يخاف جلاله وعظمته والبعد والحجاب منه ويرجو القرب منه، وهذا أعلاها رتبة، وهو خوف أرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة والخوف، والعالمين بلذة الوصال وألم البعد والفراق، والمطلعين على سر قوله: (ويحذركم الله نفسه) آل عمران 28. وقوله: (اتقوا الله حق تقاته) آل عمران 152. وقيل: ذلك خوف العابدين والزاهدين وكافة العاملين. وأما الذين غلب على قلوبهم خوف المكروه لغيره، فإما يكون خوفهم من الموت قبل التوبة، أو نقضها قبل انقضاء المدة، أو من ضعف القوة عن الوفاء بتمام حقوق الله، أو تخليته مع حسناته التي اتكل عليها وتعزز بها في عباد الله، أو من الميل عن الاستقامة، أو إلى أتباع الشهوات المألوفة استيلاء للعادة، أو تبديل رقة القلب إلى القساوة، أو تبعات الناس عنده من الغش والعداوة، أو من الاشتغال عن الله بغيره، أو حدوث ما يحدث في بقية عمره أو من البطر والاستدراج بتواتر النعم، أو انكشاف غوائل طاعته حتى يبدو له من الله ما لم يعلم، أو من الاغترار بالدنيا وزخارفها الفانية، أو تعجيل العقوبة بالدنيا وافتضاحه بالعلانية، أو من اطلاع الله على سريرته وهو عنه غافل، وتوجهه إلى غيره وهو إليه ناظر، أو من الختم له عند الموت بسوء الخاتمة، أو مما سبق له في الأزل من السابقة.
وهذه كلها مخاوف العارفين. ولكل واحد منها خصوص فائدة، هو الحذر عما يفضي إلى الخوف، فالخائف من تبعات الناس يجتهد في براءة ذمته عنها، ومن استيلاء العادة يواظب على فطام نفسه عنها، ومن اطلاع الله على سريرته يشتغل بتطهير قلبه عن الوساوس. وهكذا في بقية الأقسام. وأغلب هذه المخاوف على المتقين خوف سوء الخاتمة، وهو الذي قطع قلوب العارفين، إذ الأمر فيه مخطر - كما يأتي - وأعلى الأقسام وأدلها على كمال المعرفة خوف السابقة، لأن الخاتمة فرع السابقة، ويترتب عليها بعد تخلل أسباب كثيرة، ولذا قال العارف الأنصاري: الناس يخافون من اليوم الآخر وأنا أخاف من اليوم الأول. فالخاتمة تظهر ما سبق به القضاء في أم الكتاب. وإليه أشار النبي (ص) في المنبر، حيث رفع يده اليمنى قابضا على كفه، ثم قال: (أتدرون أيها الناس ما في كفي؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة. ثم رفع يده اليسرى وقال: أيها الناس! أتدرون ما في كفي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة. ثم قال: حكم الله وعدل، حكم الله فريق في الجنة وفريق في السعير). وقال (ص): (يسلك بالسعيد في طريق الأشقياء حتى يقول الناس: ما أشبهه بهم بل هو منهم، ثم تتداركه السعادة. وقد يسلك بالشقي طريق السعداء حتى يقول الناس: ما أشبهه بهم، بل هو منهم، ثم يتداركه الشقاء. إن من كتبه الله سعيدا وإن لم يبق من الدنيا إلا فواق ناقة ختم له بالسعادة).
اضف تعليق