والأسوأ أن الجمهور، بفعل التكرار الدعائي والتخويف الإعلامي، قد ينقاد لهذا الخطاب، ويمنح صوته لمن يخوّفه لا لمن يطمئنه. فيتحول التصويت إلى استجابة عاطفية، لا إلى قرار عقلاني مبني على تقييم برامج أو جدوى سياسات. وهكذا، يتحول المواطن من فاعل سياسي حر، إلى ضحية دائمة لثقافة الخوف...

لا يعادل أهمية سعي الإنسان للبقاء آمناً مستقراً، إلا حاجاته الوجودية الأخرى مثل الطعام والشراب والتكاثر، وغيرها من الاحتياجات الفسيولوجية. في علم النفس، وضع “أبراهام ماسلو” هذه الحاجات ضمن هرم شهير صنّف فيه الدوافع الإنسانية بحسب الأولويات: تبدأ بالحاجات البيولوجية، تليها حاجات الأمن، ثم الحب والانتماء، فالتقدير، وصولاً إلى تحقيق الذات وتذوق الجمال (Maslow, 1943).

اجتماعيًا، لا شيء يعطّل نهوض الأمم وازدهار العمران أكثر من الخوف. فالشعور بالتهديد، وتنامي القلق من أخطار محتملة—لا سيما الأمنية والعسكرية والاقتصادية—يعيد ترتيب الأولويات لدى الأفراد والمجتمعات، ويجعل التركيز منصبًا على البقاء بدل التطور.

وقد عانى العراقيون طويلاً من هذا الخوف المركب، الذي كان سببه داخليًا وخارجيًا في آنٍ معًا. فحين تضطرب الأوضاع السياسية والأمنية في الداخل، تزداد أطماع الخارج، وحين تتماسك الدولة داخليًا، تتراجع التدخلات الخارجية. وكلما تقوّت مؤسسات الدولة وتماسكت القوى الوطنية، انحسرت التدخلات الإقليمية والدولية، والعكس صحيح.

إن الركون إلى الحليف الخارجي، مهما بدا ودودًا أو صديقًا، لا يمكن أن يكون بديلًا عن السيادة الوطنية. فكل دعم خارجي ينطوي على مصلحة أو ثمن، ظاهرًا أو مؤجلًا. وتاريخ السياسة الدولية مليء بشواهد على أن “الاستعانة بالخارج” سلاح ذو حدين.

في زمن الانقسام وضياع المعايير الوطنية، باتت الاستقواء بالخارج على الشركاء السياسيين في الداخل ظاهرة شائعة، تعكس خواءً أخلاقيًا وارتباكًا في البوصلة السياسية. وصار الخطاب السياسي مملوءًا بتبريرات هذا السلوك، رغم أنه يناقض جوهر الوطنية والسيادة. فقد تحوّل العراق، بعد عام 2003، إلى ساحة مفتوحة للتدخلات الإقليمية والدولية. وصار لكل فصيل سياسي أو طائفي أو قومي داعم خارجي، يمول، ويخطط، ويوجه، ويوفر الغطاء السياسي والدعائي.

ترافق ذلك مع تراجع واضح في الوعي الوطني، وخلل في فهم الديمقراطية، التي تحولت من آلية للتداول السلمي للسلطة إلى أداة لتعزيز الانقسامات. وبات من الطبيعي أن يُدار التنافس السياسي عبر التخويف، واللعب على وتر المظلومية، سواء كانت واقعية أو مصطنعة. وبدأت القوى السياسية توظف هذه “الضحية الجماعية” في حملاتها الانتخابية، فتسوق خطاب الخوف من الآخر، وتحذر من طموحاته ومشاريعه، بدلاً من طرح برامج ومشاريع واقعية.

بهذا، تحوّلت الانتخابات في العراق إلى مواسم للتعبئة العاطفية والتحشيد الطائفي، ولم تعد مناسبة للتعبير عن اختيارات حرة وواعية. ولم يعد الصوت الانتخابي وسيلة للتغيير، بل أداة لإعادة إنتاج سلطات متوجسة، تحكم بمنطق الخوف والارتياب لا بمنطق الشراكة والثقة.

الأخطر من ذلك أن هذه السياسات تُنتج عقلية سياسية مشوشة، متشككة، لا تثق بغيرها، ولا تؤمن بإمكانية التعايش السياسي أو التفاهم الاجتماعي. فبدلاً من التفكير بوطن جامع ومصير مشترك، يتم تقزيم السياسة إلى لعبة اصطفافات مغلقة، تتغذى على الخوف وتعيد إنتاجه باستمرار.

لم يكن في حسبان منظّر “الديمقراطية التوافقية”، العالم السياسي الهولندي “آرند ليبهارت”، أن تتحول نظريته إلى أداة لإدامة الانقسام بدل تجاوزه. فقد طرح نموذج الديمقراطية التوافقية في سياق مجتمعات منقسمة إثنياً أو دينياً، كحل مرحلي لحفظ الاستقرار، وليس كأساس دائم للحكم (Lijphart, 1969). لكن النموذج العراقي استخدم هذه الوصفة بطريقة مشوهة، فحولها إلى قاعدة ثابتة للمحاصصة وتبادل المنافع وتقاسم المغانم.

سيكولوجيا التخويف تبني عقلية سياسية غير سوية، ترتاب من الآخر، وتتعامل معه كخصم دائم يجب احتواؤه أو إقصاؤه. إنها عقلية تفتقر إلى الثقة، وتؤسس لسلوك استحواذي وإقصائي في آنٍ معًا، حتى داخل الجماعة الواحدة.

والأسوأ أن الجمهور، بفعل التكرار الدعائي والتخويف الإعلامي، قد ينقاد لهذا الخطاب، ويمنح صوته لمن يخوّفه لا لمن يطمئنه. فيتحول التصويت إلى استجابة عاطفية، لا إلى قرار عقلاني مبني على تقييم برامج أو جدوى سياسات. وهكذا، يتحول المواطن من فاعل سياسي حر، إلى ضحية دائمة لثقافة الخوف.

اضف تعليق