أن يتأمل في قدرته وإرادته وأعضائه، وسائر الأسباب التي بها يتم كماله وعمله، إنها من أين كانت له: فإن كان علم أن جميع ذلك نعمة من الله إليه من غير حق سبق له، فينبغي أن يكون إعجابه بجود الله تعالى وكرمه وفضله، إذ أفاض عليه ما لا يستحقه...
وأما (العجب بالعبادة والطاعة) فعلاجه أن يعلم أن الغرض من العبادة هو إظهار الذل والانكسار، وصيرورتهما ملكة للنفس ليحصل له معنى العبودية وحقيقتها، فالعجب لمنافاته الغرض المقصود منها يبطلها، وبعد بطلانها فلا معنى للعجب بها.
وأيضا آفات العبادة الموجبة لحبطها كثيرة، وكذلك شرائطها وآدابها التي لا يصح بدونها كثرة، فيمكن أن تدخلها بعض الآفات أو تفقد عنها بعض الشرائط والآداب، فلا تكون مقبولة عند الله، ومع إمكان ردها وعدم قبولها كيف يعجب العاقل بها؟ ومن يمكنه القطع بسلامة طاعاته وعباداته عن جميع الآفات؟ ومن قطع بذلك فهو في غاية الجهل بحقائق الأمور، على أن فائدة العبادة إنما هو إذا كان عند الله سعيدا، ومن جوز أن يكون عند الله شقيا، وقد سبق القضاء الإلهي بشقوته، فأي نفع يتصور لعبادته حتى يعجب بها؟ ولا ريب في أنه لا يخلو عبد عن هذا التجويز، فما لأحد إلى العجب والتكبر في حال من الأحوال سبيل.
وأما (العجب بالورع، والتقوى، والصبر، والشكر، والسخاوة، والشجاعة، وغيرها من الفضائل النفسية): فعلاجه أن يعلم أن هذه الفضائل إنما تكون نافعة ومنجية إذا لم يدخلها العجب، وإذا دخلها العجب أبطلها وأفسدها، فما للعاقل أن يرتكب رذيلة تضيع ماله من الفضائل، وأنى له لا يظهر الذلة والتواضع في نفسه حتى يزيد فضيلة على فضائلها، ويختم لأجلها الجميع بالخير، وتصير عاقبته محمودة، وتكون مساعيه مقبولة مشكورة.
وينبغي أن يعلم أن كل واحد من الفضائل التي يثبتها لنفسه موجودة مع الزيادة في كثير من بني نوعه، وإذا علم اشتراك الناس معه في هذه الفضيلة زال إعجابه بها. وقد نقل أن واحدا من مشاهير الشجعان إذا قابل خصمه أصفر لونه وارتعدت فرائصه واضطرب قلبه، فقيل له: ما هذه الحالة وأنت أشجع الناس وأقواهم؟ فقال: إني لم أمتحن خصمي، فلعله أشجع مني. وأيضا النصر والغلبة وحسن العاقبة مع الذلة والمسكنة، لا مع الاعجاب بالقوة والشجاعة، فإن الله عند المنكسرة قلوبهم.
ومن المعالجات النافعة للعجب بكل واحد من الصفات الكمالية: أن يقابل سببه بضده، إذ علاج كل علة بمقابلة سببها بضده، ولما كانت علة العجب هو الجهل المحض، فعلاجه المعرفة المضادة له، فنقول: الكمال الذي به يعجب إما أن يكون يعجب به من حيث أنه فيه وهو محله ومجراه، أو من حيث أنه نشأ منه وحصل بسببه وقوته وقدرته. فإن كان (الأول)، فهو محض الجهل، لأن المحل مسخر، وإنما يجري ما يجري فيه وعليه من جهة غيره، ولا مدخل له في الايجاد والتحصيل، فكيف يعجب بما ليس له، وإن كان (الثاني)، فينبغي أن يتأمل في قدرته وإرادته وأعضائه، وسائر الأسباب التي بها يتم كماله وعمله، إنها من أين كانت له: فإن كان علم أن جميع ذلك نعمة من الله إليه من غير حق سبق له، فينبغي أن يكون إعجابه بجود الله تعالى وكرمه وفضله، إذ أفاض عليه ما لا يستحقه، وآثره به على غيره من غير سابقة ووسيلة، فإن ظن أنه تعالى وفقه لهذا العمل لاتصافه ببعض الصفات الباطنة المحمودة، كحبه له تعالى أو مثله، فيقال له: الحب والعمل كلاهما نعمتان من عنده، ابتدأك بهما من غير استحقاق من جهتك، إذ لا وسيلة لك ولا علاقة، فليكن الاعجاب بجوده، إذ أنعم بوجودك وبوجود صفاتك وأعمالك وأسباب أعمالك.
فإذن لا معنى لعجب العالم بعلمه، وعجب العابد بعبادته، وعجب الشجاع بشجاعته، وعجب الجميل بجماله، وعجب الغني بماله، لأن كل ذلك من فضل الله، وإنما هو محل لفيضان فضل الله وجوده. والمحل أيضا من فضله وجوده، فإنه هو الذي خلقك، وخلق أعضاءك وخلق فيها القوة والقدرة والصحة، وخلق لك العقل والعلم والإرادة، ولو أردت أن تنفي شيئا من ذلك لم تقدر عليه، ثم خلق الحركات في أعضائك مستبدا باختراعها من غير مشاركة لك معه في الاختراع، إلا أنه خلقها على ترتيب، فلم يخلق الحركة ما لم يخلق في العضو قوة وفي القلب إرادة، ولم يخلق العلم ما لم يخلق القلب الذي هو محله، فتدريجه في الخلق شيئا بعد شيء هو الذي خيل إليك أنك مستقل بإيجاد عملك، وقد غلطت، فإن تحريك البواعث وصرف العوائق، وتهيئة الأسباب، كلها من الله، ليس شيء منها إليك.
ومن العجائب أن تعجب بنفسك، ولا تعجب بمن إليه الأمر كله، ولا تعجب بجوده وكرمه، وفضله في إيثاره إياك على الفساق من عباده، إذ مكنهم من أسباب الشهوات واللذات، وزواها عنك، وصرف عنهم بواعث الخير وهيأها لك، حتى يتيسر لك الخير من غير وسيلة سابقة منك. روي: أن أيوب عليه السلام قال: (إلهي إنك ابتليتني بهذا البلاء، وما ورد علي أمر إلا آثرت هواك على هواي)، فنودي من غمامة بعشرة آلاف صوت: يا أيوب! أنى لك ذلك؟ قال: فأخذ رمادا فوضعه على رأسه، وقال: منك يا رب! فرجع عن نسيانه، وأضاف ذلك إلى الله تعالى، ولذلك قال الله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبدا) النور21. وقال النبي (ص): (ما منكم من أحد ينجيه عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
(فإن قيل): ما ذكرت من استناد الصفات والأفعال ومحلها جميعا إلى الله تعالى، يؤدي إلى الجبر ونفي التكليف، وبطلان الثواب والعقاب، (قلنا): هذا فرع باب مسألة يتعلق بعلم آخر، ولا يليق بيانها هنا. ونحن لم نسلب القدرة والاختيار عن العبد بالكلية في متعلق التكليف -أعني أفعاله العرضية- بل نفينا استقلاله فيها. نعم، في غيرها من المحال والأسباب والصفات اللازمة، والتوفيق، وتحريك البواعث، وصرف الموانع، لا قدرة له فيها أصلا، ولا يلزم منه فساد.
اضف تعليق