والعجب لا يستدعي غير المعجب، بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجبا، ولا يتصور أن يكون متكبرا، إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفة الكمال، ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبرا، فإنه قد يستعظم نفسه، ولكن يرى...

ومن رذائل القوة الغضبية، العجب:

وهو استعظام نفسه لأجل ما يرى لها من صفة كمال، سواء كانت له تلك الصفة في الواقع أم لا. وسواء كانت صفة كمال في نفس الأمر أم لا، وقيل: هو إعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها إلى المنعم وهو قريب مما ذكر، ولا يعتبر في مفهومه رؤية نفسه فوق الغير في هذا الكمال وهذه النعمة، وبذلك يمتاز عن الكبر، إذ الكبر هو أن يرى لنفسه مزية على غيره في صفة كمال، وبعبارة أخرى هو الاسترواح والركون إلى رؤية النفس فوق المتكبر عليه، فالكبر يستدعي متكبر عليه ومتكبرا به.

والعجب لا يستدعي غير المعجب، بل لو لم يخلق الإنسان إلا وحده تصور أن يكون معجبا، ولا يتصور أن يكون متكبرا، إلا أن يكون مع غيره وهو يرى نفسه فوق ذلك الغير في صفة الكمال، ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبرا، فإنه قد يستعظم نفسه، ولكن يرى في غيره أعظم من نفسه أو مثل نفسه، فلا يتكبر عليه، فهو معجب وليس متكبرا.

 ولا يكفي أن يستحقر غيره، فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر أو رأى غيره مثل نفسه لم يكن متكبرا، بل المتكبر هو أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة، ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره. والحاصل: أن العجب مجرد إعظام النفس لأجل كمال أو نعمة، وإعظام نفس الكمال والنعمة مع الركون ونسيان إضافتهما إلى الله، فإن لم يكن معه ركون وكان خائفا على زوال النعمة مشفقا على تكدرها أو سلبها بالمرة، أو كان فرحه بها من حيث أنها من الله من دون إضافتها إلى نفسه لم يكن معجبا، فالمعجب ألا يكون خائفا عليها، بل يكون فرحا بها مطمئنا إليها، فيكون فرحه بها من حيث أنها صفة كمال منسوبة إليه، لا من حيث أنها عطية منسوبة إلى الله تعالى. 

ومهما غلب على قلبه أنها نعمة من الله مهما شاء سلبها: زال العجب. ثم لو انضاف العجب - أي غلب على نفس المعجب - أن له عند الله حقا، وإنه منه بمكان، واستبعد أن يجري عليه مكروه، وكان متوقعا منه كرامة لعمله، سمي ذلك (إدلالا) بالعمل، فكأنه يرى لنفسه على الله دالة فهو وراء العجب وفوقه إذ كل مدل معجب، ورب معجب لا يكون مدلا، إذ العجب مجرد الاستعظام ونسيان الإضافة إلى الله من دون توقع جزاء على عمله، والإدلال يعتبر فيه توقع الجزاء بعمله، إذ المدل يتوقع إجابة دعوته ويستنكر ردها بباطنه ويتعجب منه، فالإدلال عجب مع شيء زائد.

 وعلى هذا، فمن أعطى غيره شيئا، فإن استعظمه ومن عليه كان معجبا وإن استخدمه مع ذلك أو اقترح عليه الاقتراحات واستبعد تخلفه عن قضاء حقوقه كان مدلا عليه. وكما إن العجب قد يكون مما يراه صفة كمال وليس كذلك العجب بالعمل قد يكون بعمل هو مخطئ فيه ويراه حسنا، كما قال سبحانه: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا) الفاطر 8. وقال أبو الحسن عليهما السلام: العجب درجات: ومنها أن يزين للعبد سوء عمله فيراه حسنا، فيعجبه ويحسب أنه يحسن صنعا. ومنها أن يؤمن العبد بربه، فيمن على الله -عزوجل- ولله عليه فيه المن.

ذم العجب

العجب من المهلكات العظيمة وأرذل الملكات الذميمة، قال رسول الله (ص): (ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه). وقال (ص): (إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك نفسك). وقال (ص): (لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أكبر من ذلك: العجب العجب). وقال (ص): (بينما موسى (ع) جالس، إذ أقبل عليه إبليس وعليه برنس ذو ألوان، فلما دنى منه خلع البرنس، وقام إلى موسى عليه السلام فسلم عليه، فقال له موسى: من أنت؟ فقال: أنا إبليس قال أنت ! فلأقرب الله دارك، قال: إني إنما جئت لأسلم عليك لمكانك من الله، فقال له موسى عليه السلام: فما هذا البرنس؟ قال: به اختطف قلوب بني آدم، فقال موسى: فأخبرني بالذنب الذي إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه، قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله وصغر في عينه ذنبه). 

وقال (ص): (قال الله - عز وجل -: يا داود ! بشر المذنبين وأنذر الصديقين، قال: كيف أبشر المذنبين - وأنذر الصديقين؟ قال: بشر المذنبين أني أقبل التوبة وأعفوا عن الذنب، وأنذر الصديقين؟ ألا يعجبوا بأعمالهم، فإنه ليس عبد أنصبه للحساب إلا هلك). وقال الباقر (ع): (دخل رجلان المسجد، أحدهما عابد والآخر فاسق، فخرجا من المسجد والفاسق صديق والعابد فاسق، وذلك أنه يدخل العابد المسجد مدلا بعبادته يدل بها، فتكون فكرته في ذلك، وتكون فكرة الفاسق في الندم على فسقه، ويستغفر الله مما صنع من الذنوب).

 وقال الصادق (ع): (إن الله علم أن الذنب خير للمؤمن من العجب، ولولا ذلك ما ابتلي مؤمنا بذنب أبدا). وقال عليه السلام: (من دخله العجب هلك). وقال (ع): (إن الرجل ليذنب الذنب فيندم عليه، ويعمل العمل فيسره ذلك، فيتراخى عن حاله تلك، فلإن يكون على حاله تلك خير له مما دخل فيه). وقال عليه السلام: (أتى عالم عابدا فقال له: كيف صلاتك؟ فقال: مثلي يسأل عن صلاته وأنا أعبد الله منذ كذا وكذا، قال: فكيف بكاؤك؟ قال: أبكي حتى تجري دموعي، فقال له العالم: فإن ضحكك وأنت خائف أفضل من بكائك وأنت مدل، إن المدل لا يصعد من عمله شيء). وقال (ع): (العجب كل العجب ممن يعجب بعمله وهو لا يدري بما يختم له، فمن أعجب بنفسه وفعله، فقد ضل عن نهج الرشاد، وادعى ما ليس له، والمدعي من غير حق كاذب وإن أخفى دعواه وطال دهره. وإن أول ما يفعل بالمعجب نزع ما أعجب به ليعلم أنه عاجز حقير، ويشهد على نفسه ليكون الحجة عليه أوكد، كما فعل بإبليس. والعجب نبات حبها الكفر، وأرضها النفاق، وماؤها البغي، وأغصانها الجهل، وورقها الضلالة، وثمرها اللعنة والخلود في النار، فمن اختار العجب فقد بذر الكفر وزرع النفاق، ولا بد أن يثمر). 

وقيل له عليه السلام: (الرجل يعمل العمل وهو خائف مشفق، ثم يعمل شيئا من البر فيدخله شبه العجب به، فقال: هو في حالة الأولى وهو خائف أحسن حالا منه في حال عجبه). وقال عليه السلام: (إن عيسى بن مريم عليهما السلام كان من شرائعه المسيح في البلاد، فخرج في بعض سيحه ومعه رجل من أصحابه قصير، وكان كثير اللزوم لعيسى، فلما إنتهى عيسى إلى البحر قال: بسم الله، بصحة يقين منه، فمشى على ظهر الماء. فقال الرجل القصير حين نظر إلى عيسى جازه: بسم الله، بصحة يقين منه، فمشى على الماء، ولحق بعيسى - صلى الله عليه -، فدخله العجب بنفسه فقال: هذا عيسى روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي على الماء، فما فضله علي؟ قال: فرمس في الماء، فاستغاث بعيسى (ع)، فتناوله من الماء فأخرجه، ثم قال له: ما قلت يا قصير؟ ! قال قلت: هذا روح الله يمشي على الماء وأنا أمشي، فدخلني من ذلك عجب، فقال له عيسى: لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك الله، فمقتك الله على ما قلت، فتب إلى الله عز وجل مما قلت، قال: فتاب الرجل، وعاد إلى مرتبته التي وضعه الله فيها).

آفات العجب

 العجب آفاته كثيرة: (منها) الكبر لأنه أحد أسبابه - كما يأتي - (ومنها) إنه يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، فلا يتذكر شيئا منها، وإن تذكر بعضا منها يستصغرها ولا يستعظمها، فلا يجتهد في تداركها وتلافيها، بل يظن أنها تغفر له. وأما العبادات، فيستعظمها ويتبجح بها ويمن على الله بفعلها، وينسى نعمة الله عليه بالتوفيق والتمكين منها، وإذا أعجب بها عمي عن آفاتها. ومن لم يتفقد آفات الأعمال ضل سعيه، إذ الأعمال الظاهرة إذا لم تكن خالصة نقية عن الشوائب فلما تنفع، وإنما يتفقد الخائف المشفق دون المعجب، لأنه يغتر بنفسه وبرأيه ويأمن مكر الله وعذابه، ويظن أنه عند الله بمكان، وإن له عند الله حقا بأعماله التي هي من عطاياه تعالى ونعمه وربما يخرجه العجب إلى تزكية نفسه والثناء عليها.

 وإن أعجب برأيه وعقله وعلمه منعه ذلك من السؤال والاستفادة والاستشارة، فيستبد بنفسه ورأيه ويستنكف عن سؤال الأعلم، وربما يعجب بالرأي الخطأ الذي خطر له، فيفرح بكونه من خواطره ولا يعتني بخواطر غيره بعين الاستحقار والاستجهال فإن كان رأيه الفاسق متعلقا بأمر دنيوي أضره وفضحه، وإن كان متعلقا بأمر ديني - (لا) سيما في أصول العقائد - أضله وأهلكه. ولو اتهم نفسه ولم يثق برأيه، واستعان بعلماء الدين وسؤال أهل البصيرة، لكان خيرا له وأحسن، وموصلا له إلى الحق المتيقن. ومن آفاته أنه يفتر في الجد والسعي، لظنه أنه قد استغنى وفاز بما ينجيه، وهو الهلاك الصريح الذي لا شبهة فيه.

* مقتطف بتصرف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

اضف تعليق