العالم الحقيقي هو الذي يعرف نفسه وخطر الخاتمة، وإن من تليق به العظمة والعزة والكبرياء هو الله سبحانه، وما عداه هالك الهوية والذات فاقد الكمال والصفات. وهذا العلم يزيد الخوف والذلة والمهانة والمسكنة، والاعتراف بالقصور والتقصير في أداء حقوق الله، والشكر بإزاء نعمه، ولذا قيل: من ازداد علما...

إعلم أن للعجب علاجين: إجماليا وتفصيليا: أما العلاج الإجمالي - فهو أن يعرف ربه، وأنه لا تليق العظمة والعزة إلا به، وأن يعرف نفسه حق المعرفة، ليعلم أنه بذاته أذل من كل ذليل وأقل من كل قليل، ولا تليق به إلا الذلة والمهانة والمسكنة، فما له والعجب واستعظام نفسه، فإنه لا ريب في كونه ممكنا، وكل ممكن في ذاته صرف العدم ومحض اللاشئ، كما ثبت في الحكمة المتعالية، ووجوده وتحققه وكماله وآثاره جميعا من الواجب الحق، فالعظمة والكبرياء إنما تليق بمفيض وجوده وكمالاته، لا لذاته التي هي صرف العدم ومحض الليس، فإن شاء أن يستعظم شيئا ويفتخر به فليستعظم ربه وبه افتخر، ويستحقر نفسه غاية الاستحقار وحتى يراها صرف العدم ومحض اللاشئ. وهذا المعنى يشترك فيه كل ممكن كائنا من كان. 

وأما المهانة والذلة التي تخص هذا المعجب وبني نوعه، فكون أوله نطفة قذرة وآخره جيفة عفنة، وكونه ما بين ذلك حمال نجاسات منتنة، وقد مر على ممر البول ثلاث مرات. وتكفيه آية واحدة من كتاب الله تعالى لو كان له بصيرة، وهي قوله تعالى: (قتل الإنسان ما أكفره. من أي شيء خلقه. من نطفة خلقه فقدره. ثم السبيل يسره. ثم أماته فأقبره. ثم إذا شاء أنشره) عبس 17-22.. فقد أشارت الآية إلى أنه كان أولا في كتم العدم غير المتناهي، ثم خلقه من أقذر الأشياء الذي هو نطفة مهينة، ثم أماته وجعله جيفة منتنة خبيثة. وأي شيء أخس وأرذل ممن بدايته محض العدم، وخلقته من أنتن الأشياء وأقذرها، ونهايته الفناء وصيرورته جيفة خبيثة.

 وهو ما بين المبدأ والمنتهى عاجز ذليل، لم يفرض إليه أمره، ولم يقدر على شيء لنفسه ولا لغيره، إذ سلطت عليه الأمراض الهائلة، والأسقام العظيمة، والآفات المختلفة والطبائع المتضادة، من المرة والدم والريح والبلغم، فيهدم بعض أجزائه بعضا، شاء أم أبى، رضي أم سخط، فيجوع كرها، ويعطش كرها، ويمرض كرها، ويموت كرها، لا يملك لنفسه نفعا وضرا ولا خيرا وشرا، يريد أن يعلم الشيء فيجهله، ويريد أن يذكر الشيء فينساه، ويريد أن ينسى الشيء فلا ينساه، ويريد أن ينصرف قلبه إلى ما يهمه فيجول في أودية الوساوس والأفكار بالاضطرار. 

فلا يملك قلبه قلبه، ولا نفسه نفسه. يشتهي الشيء وفيه هلاكه، ويكره الشيء وفيه حياته، يستلذ ما يهلكه ويرديه، ويستبشع ما ينفعه وينجيه، ولا يأمن في لحظة من ليله أو نهاره أن يسلب سمعه وبصره وعلمه وقدرته، وتفلج أعضاؤه، ويختلس عقله، وتخطف روحه، ويسلب جميع ما يهواه في دنياه، وهو مضطر ذليل إن ترك فني، وإن خلي ما بقي، عبد مملوك، لا يقدر على شيء من نفسه ولا من غيره. فأي شيء أذل منه لو عرف نفسه؟

 وأنى يليق العجب به لولا جهله؟. وهذا وسط أحواله. وأما آخره، فهو الموت - كما عرفت - فيصير جيفة منتنة قذرة، ثم تضمحل صورته، وتبلى أعضاؤه، وتنخر عظامه، وتتفتت أجزاؤه، فيصير رميما رفاتا، ثم يصير روثا في أجواف الديدان، يهرب منه الحيوان، ويستقذره كل إنسان، وأحسن أحواله أن يعود إلى ما كان، فيصير ترابا تعمل منه الكيزان، ويعمر منه البنيان، فما أحسنه لو ترك ترابا، بل يحيى بعد طول البلى ليقاسي شدائد البلا، فيخرج من قبره بعد جمع أجزائه المتفرقة، ويساق إلى عرصات القيامة، فيرى سماء مشققة، وأرضا مبدلة، وجبالا مسيرة، ونجوما منكدرة، وشمسا منكسفة، وجحيما مسعرة، وجنة مزينة، وموازين منصوبة، وصحائف منشورة، فإذا هو في معرض المؤاخذة والحساب عليه ملائكة غلاظ شداد، فيعطى كتابه إما بيمينه أو شماله، فيرى فيه جميع أعماله وأفعاله، من قليل وكثير ونقير وقطمير. 

فإن غلبت سيئاته على حسناته وكان مستحقا للعذاب والنار، تمنى أن يكون كلبا أو خنزيرا، لصير مع البهائم ترابا ولا يلقى عقابا ولا عذابا. ولا ريب في أن الكلب والخنزير أحسن وأطيب ممن عصى ربه القهار ويعذب في النار، إذ أولهما وآخرهما التراب، وهو بمعزل عن العقاب والعذاب، والكلب والخنزير لا يهرب منهما الخلق، ولو رأى أهل الدنيا من يعذب في النار لصعقوا من وحشة خلقته وقبح صورته. ولو وجدوا ريحه لماتوا من نتنه، ولو وقعت قطرة من شرابه الذي يسقاه في بحار الدنيا صارت أنتن من الجيفة المنتنة.

 فما لمن هذه حاله والعجب واستعظام نفسه! وما أغفله من التدبر في أحوال يومه وأمسه! ولو لم يدركه العذاب ولم يؤمر به النار فإنما ذلك للعفو، لأنه ما من عبد إلا وقد أذنب ذنبا، وكل من أذنب ذنبا استحق عقوبة، فلو لم يعاقب فإنما ذلك للعفو. 

ولا ريب في أن العفو ليس يقينا بل هو مشكوك فيه، فمن استحق عقوبة ولا يدري أيعفى عنها أم لا، يجب أن يكون أبدا محزونا خائفا ذليلا، فكيف يستعظم نفسه ويلحقه العجب، ألا ترى أن من جنى على بعض الملوك بما استحق به ألف سوط مثلا، فأخذ وحبس في السجن. وهو منتظر أن يخرج إلى العرض وتقام عليه العقوبة على ملأ من الخلق، وليس يدري أيعفى عنه أم لا، كيف يكون ذله في السجن؟ أفترى إنه مع هذه الحالة يكون معجبا بنفسه؟! ولا أظنك أن تظن ذلك. فما من عبد مذنب، ولو أذنب ذنبا واحدا، إلا وقد استحق عقوبة من الله، والدنيا سجنه، ولا يدري كيف يكون أمره، فيكفيه ذلك خوفا ومهانة وذلة. فلا يجوز له أن يعجب ويستعظم نفسه. هذا هو العلاج الإجمالي للعجب.

العلاج التفصيلي للعجب

 وأما التفصيلي -فهو أن يقطع أسبابه - أعني ما به العجب - وهي العلم، والمعرفة، والعبادة، والطاعة، وغير ذلك من الكمالات النفسية، كالورع، والشجاعة، والسخاوة، والنسب، والحسب، والجمال، والمال والقوة، والبطش، والجاه، والاقتدار، وكثرة الأعوان والأنصار، والكياسة، والتفطن لدقائق الأمور، والرأي الخطأ.

علاج العجب بالعلم

 أما (العجب بالعلم): فعلاجه أن يعلم أن العالم الحقيقي هو الذي يعرف نفسه وخطر الخاتمة، وإن من تليق به العظمة والعزة والكبرياء هو الله سبحانه، وما عداه هالك الهوية والذات فاقد الكمال والصفات. وهذا العلم يزيد الخوف والذلة والمهانة والمسكنة، والاعتراف بالقصور والتقصير في أداء حقوق الله، والشكر بإزاء نعمه، ولذا قيل: من ازداد علما ازداد وجعا. 

فالعلم الذي لا يوجب ذلك ويورث العجب، إما ليس علما حقيقيا بل هو من العلوم الدنيوية التي ينبغي أن تسمى صناعات لا علوم، إذ صاحبه خاض فيه وهو خبيث النفس ردئ الأخلاق لم يهذب نفسه أولا ولم يزكها بالمجاهدات ولم يرضها في عبادة ربه، فيبقى خبيث الجوهر، فإذا خاض في العلم وإن كان علما حقيقيا صادف من قلبه منزلا خبيثا، فلم يطب ثمره ولم يظهر في الخبر أثره، فإن العلم مثله مثل الغيث ينزل من السماء عذبا صافيا، فإذا شربته الأشجار والنباتات ازداد المر مرارة والحلو حلاوة كذلك العلم إذا صادف القلوب ازداد القلب المظلم الخبيث ظلمة وخباثة. والطيب الصافي طيبا وصفاء. 

وإذا علم ذلك، يعرف أنه لا ينبغي العجب بالعلم، ويجب أيضا أن يعلم أنه إذا أعجب بنفسه صار ممقوتا عند الله مبغوضا لديه، لما تقدم من الأخبار، وقد أحب الله منه الذلة والحقارة عند نفسه. وقال بواسطة سفرائه إن لك عندي قدرا ما لم تر لنفسك قدرا، فإن رأيت لنفسك قدرا فلا لك قدر عندي (1). وقال: صغروا أنفسكم ليعظم عندي محلكم. فلا بد أن يكلف نفسه ما يحب مولاه، وأن يعلم أن حجة الله على أهل العلم أوكد، وإنه يتحمل من الجاهل ما لا يتحمل عشره من العالم، لأن العالم إذا زل زل بزلته كثير من الناس، ولأن من عصى الله عن علم ومعرفة كانت جنايته أفحش، إذ لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم، ولذلك قال رسول الله (ص): يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى، فيطيف به أهل النار، فيقولون: ما لك؟ فيقول: كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه، وقد مثل الله تعالى علماء (اليهود) بالحمار (2)، وبلعلم بن باعوراء بالكلب (3) لعدم عملهم بما علموه. 

وقال رسول الله (ص): يكون قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقولون قد قرأنا القرآن فمن أقرأ منا ومن أعلم منا، ثم التفت إلى أصحابه فقال: أولئك منكم أيها الأمة، أولئك هو وقود النار. وقال (ص): إن أهل النار ليتأذون من ريح العالم التارك لعلمه، وإن أشد أهل النار ندامة وحسرة رجل دعا عبدا إلى الله فاستجاب له وقبل منه، فأطاع الله فأدخله الله الجنة، وأدخل الداعي النار بتركه علمه واتباعه الهوى وطول الأمل، وقال روح الله (ع): ويل لعلماء السوء كيف تتلظى عليهم النار. 

وقال الصادق عليه السلام: يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد. ولا ريب في أن كل عالم يأمر الناس بالتواضع وذل النفس وانكسارها، وينهاهم عن العجب والكبر، وهو معجب متكبر، يكن من علماء السوء وممن لم يعمل بعلمه، فيكون داخلا تحت هذه الأخبار. 

وأي عالم يتصور في أمثال هذه الأزمنة أن يجزم بأنه عمل بجميع ما علم وأمر به، ولم يضع شيئا من أوامر ربه من الجنايات الظاهرة والذنوب الباطنة، كالرياء والحسد والعجب والنفاق وغير ذلك؟ وكيف يمكنه القطع بأنه امتثل ما أمر به من التكاليف العامة والخاصة به؟ فخطره أعظم من خطر غيره، كيف وقد روي: إن حذيفة صلى بقوم، فلما سلم قال: لتلتمسن إماما غيري أو لتصلن وحدانا، فإني رأيت في نفسي أنه ليس في القوم أفضل مني. فإذا كان مثله لا يسلم، فكيف يسلم الضعفاء، من متأخري هذه الأمة، فما أعز على بسيط الأرض في هذه الأعصار علماء الآخرة الذين أقبلوا على شأنهم، واستوحشوا من أوثق إخوانهم، وشغلهم عظيم الأمر عن الالتفات إلى الدنيا وزهرتها، وأزعجهم خوف الرحمن من مضاجعهم في حنادس الليالي وظلمتها ولا يشتهون من نعيم الدنيا حارا ولا باردا، وصارت همومهم هما واحدا، هيهات! فأنى يسمح آخر الزمان بمثلهم، فهم أرباب الإقبال وأصحاب الدول وقد انقرضوا في القرون الأول، بل يعز أن يوجد في زماننا هذا عالم لا تكون له استطالة وخيلاء، ولم يكن متكبرا على الفقراء، ومتواضعا للأغنياء.

 فينبغي لكل عالم أن يتفكر في أحواله وأعماله وما أريد منه، وفي عظم خطره حتى تنكسر نفسه، ويظهر خوفه وحزنه ويبطل كبره وعجبه. 

* مقتطف بتصرف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

.......................................

(1) هذا كلام بنصه مذكور في إحياء العلوم - ج 3 ص 312 - ويظهر منه أنه من كلامه هو أو مقتبس من مضامين الأخبار، إلا أنه نص حديث، وكذا ما بعده وهو قوله: صغروا..

(2) إشارة إلى قوله تعالى - في سورة الجمعة الآية 5 -: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا.

 (3) إشارة إلى قوله تعالى - في سورة الأعراف الآية 176 -: فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث.

اضف تعليق