وضع الشيعة استاء جدا بعد شهادة الإمام الحسن ومن ذلك: أنّ معاوية كتب نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته. فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً، ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته...
لقد عانى الشيعة عبر العصور المختلفة من الظلم وقاسوا أبشع البطش والاضطهاد لولائهم لأهل البيت (عليهم السلام) واتباعهم إيّاهم، وهذا الأمر تشهد به مصادر التأريخ ويقرّ به المؤرّخون ومنهم أبو الفرج الأصفهاني في كتابه (مقاتل الطالبيين) حيث استعرض مقتطفات من ظلامات الشيعة عبر العصور.
ومن العهود الصعبة التي مرت على الشيعة هو عهد الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي آلت إليه الخلافة الواقعية بعد أبيه أميرالمؤمنين (عليه السلام) وعاصر معاوية بن أبي سفيان الناقم على الشيعة لنصرتهم الإمام علي بن أبي طالب (عليهم السلام) في صراعاته معه.
فقد عايش الإمام الحسن (عليه السلام) ظروفاً صعبة جداً تدور بين كثرة المخالف وخذلان الناصر وحقد معاوية الدفين على الشيعة الذين كانوا يتوقّعون من إمامهم نصرتهم ودفع هذا البطش العاتي من طاغوت زمانهم.
ورغم كل هذه الظروف الشديدة فقد بذل الإمام المجتبى (عليه السلام) بالغ جهده وقصارى مساعيه لرفع ذلك البطش وحفظ حقوق الشيعة المضطهدين.
من هم الشيعة؟
الشيعة في اللغة هم الأتباع والأنصار والأعوان، وإلى ذلك يشير الأزهري في قوله: " معنى الشيعة الذين يتبع بعضهم بعضاً...والشيعة قوم يهوون هوى عترة النبي (صلى الله عليه وآله) ويوالونهم"(1).
وفي (القاموس): "شيعة الرجل بالكسر أتباعه وأنصاره والفرقة على حدة، ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنّث، وقد غلب هذا الاسم على من يتولّى علياً وأهل بيته حتى صار إسماً لهم خاصاً، والجمع أشياع وشيع كعنب"(2).
وقال ابن خلدون في مقدّمته: " إعلم إنّ الشيعة لغة هم الصحب والاتباع ويطلق في عُرف الفقهاء والمتكلّمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه رضي الله عنهم (3).
وفي (تاج العروس): شيعة الرجل بالكسر: أتباعه وأنصاره، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة... وكل من عاون إنساناً وتحزّب له فهو شيعة له... وأصله ذلك من المشايعة وهي المتابعة والمطاوعة (4).
وفي (لسان العرب): الشيعة القوم الذين يجتمعون على الأمر، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم شيعة... والشيعة أتباع الرجل وأنصاره، وجمعها شيع، وأشياع جمع الجمع، ويقال: شايعه كما يقال والاه من الولي.
وقد اختص هذا اللفظ بمن تولّى أميرالمؤمنين الإمام علي بن أبي طالب وبنيه (عليهم السلام) وأقر بإمامتهم، حتى صار ينصرف إليهم إذا أطلق عند الاستعمال من دون قرينة وأمارة(5).
وقال الشهرستاني: هم الذين شايعوا عليّاً (رضي الله عنه) على الخصوص وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّةً، إمّا جليّاً وإمّا خفيّاً، واعتقدوا أنّ الإمامة لا تخرج من أولاده، وإن خرجت فبظلم يكون من غيره أو بتقيّة من عنده.
وقالوا: ليست الإمامة قضية مصلحية تناط باختيار العامة وينتصب الإمام بنصبهم، بل هي قضية أُصولية، وهي ركن الدين(6).
وقال النوبختي: "أوّل الفرق الشيعة، وهم فرقة علي بن أبي طالب (عليه السلام) المسمّون بشيعة علي (عليه السلام) في زمان النبي (صلى الله عليه وآله) وبعده معروفون بانقطاعهم إليه والقول بإمامته منهم: المقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، وأبو ذر جندب ابن جنادة الغفاري، وعمّار بن ياسر، ومن وافق مودّته مودّة علي (عليه السلام)، وهم أوّل مَن سمّي باسم التشيّع من هذه الأُمّة، لأنّ اسم التشيع قديم، شيعة إبراهيم، وموسى، وعيسى (7).
ولعل من خيرة التعاريف للشيعة تعريف أبان بن تغلب الذي يعد من صحابة الإمام الباقر والصادق (عليهما السلام)، قال: "الشيعة الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله أخذوا بقول علي، وإذا اختلف الناس عن علي أخذوا بقول جعفر بن محمد (8).
والشيعي: نسبة إلى الشيعة، يقال للواحد منهم: شيعي.
منزلة الشيعة عند المعصومين (عليهم السلام)
تضافرت الأخبار عن المعصومين (عليهم السلام) بعظم منزلة الشيعة عندهم، وصُرّح في كثير منها أنّ الشيعة منهم خُلقوا من فاضل طينتهم، وأنّ من عادى شيعتهم فقد عاداهم.
يقول أحمد بن محمد عن ابن أبي نجران: "سمعت أبا الحسن (عليه السلام): من عادى شيعتنا فقد عادانا ومن والاهم فقد والانا لأنهم منّا خلقوا من طينتنا من أحبهم فهو منا ومن أبغضهم فليس منّا" (9).
وعن ابن عباس، قال: "قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): يا علي شيعتك هم الفائزون يوم القيامة، فمن أهان واحدا منهم فقد أهانك، ومن أهانك فقد أهانني، ومن أهانني أدخله الله نار جهنم خالدا فيها- وبئس المصير.
يا علي أنت منّي وأنا منك، روحك من روحي، وطينتك من طينتي، وشيعتك خلقوا من فضل طينتنا، فمن أحبّهم فقد أحبّنا، ومن أبغضهم فقد أبغضنا، ومن عاداهم فقد عادانا، ومن ودّهم فقد ودّنا"(10).
لماذا حُورب الشيعة؟
امتاز الشيعة عن غيرهم من الناس بمحبتهم لأهل البيت (عليهم السلام) واتباعهم إيّاهم ونصرتهم وصلتهم لهم مقابل بغض غيرهم لهم وقطيعتهم إياهم.
فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام) يوماً لبعض شيعته: "أحببتمونا وأبغضنا الناس، وواليتمونا وعادانا الناس، وصدّقتمونا وكذّبنا الناس، ووصلتمونا وقطعنا الناس، فجعل الله محياكم محيانا، ومماتكم مماتنا"(11).
وکانت هذه المحبّة والنصرة الخالصة من الشيعة لأهل البيت (عليهم السلام) لعداء كثير من الناس للشيعة ومحاربتهم لهم وسخریتهم بهم.
عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: "إنّ حواري عيسى (عليه السلام) كانوا شيعته، وإنّ شيعتنا حواريونا وما كان حواري عيسى بأطوع له من حوارينا لنا، وإنما قال عيسى (عليه السلام) للحواريين: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ) (12)، فلا والله ما نصروه من اليهود ولا قاتلوهم دونه، وشيعتنا والله لم يزالوا منذ قبض الله عز ذكره رسوله ينصرونا ويقاتلون دوننا ويُحرقون ويعذّبون ويشرّدون في البلدان، جزاهم الله عنا خيراً (13).
وعن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: ليهنئكم الاسم؟
قلت: وما هو جعلت فداك؟
قال: الشيعة، قيل: إنّ الناس يعيّروننا بذلك، قال: أما تسمع قول الله: وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ(14)، وقوله: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ(15)، فليهنئكم الاسم(16).
وروى المؤرخون: أنّ الفضل بن دکين کان يتشيّع فجاءه ولده وهو يبكي، فقال له: مالك؟
قال: يا أبتي إنّ الناس يقولون: إنك تتشيّع؟
فأجابه الفضل:
وما زال الكتمان حتى كأنّنـي --- بـرجـع جـواب السائـلي أعجم
لأسلم من قـول الوشاة وتسلمي --- سلمت وهل حي على الناس يسلم (17).
وقد صرّح كثير ممّن حارب الشيعة أن إشكالهم عليهم ومحاربتهم لهم لمولاتهم للمعصومين (عليهم السلام).
ظلم الشيعة في عهد الإمام الحسن (عليه السلام)
شهد عهد الإمام الحسن (عليه السلام) مآسي كثيرة صبّت على الشيعة الموالين من قبل معاوية الذي سخط عليهم وأكن لهم الأحقاد لنصرتهم الإمام علي (عليه السلام) أيام حياته.
فما كان من معاوية الذي خلت الأجواء بعد غياب أميرالمؤمنين (عليه السلام) وخذلان الناس لنجله الإمام الحسن (عليه السلام) إلا أن عمد إلى الشيعة وصبّ عليهم وابل أحقاده الدفينة.
يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في حديث له للمفضل بن عمر عن الرجعة: يا مفضل ويقوم الحسن (عليه السلام) إلى جدّه (صلى الله عليه وآله)، فيقول: يا جدّاه كنت مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في دار هجرته بالكوفة حتى استشهد بضربة عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله، فوصّاني بما وصيته يا جداه، وبلغ اللعين معاوية قتل أبي فأنفذ الدعي اللعين زيادا إلى الكوفة في مائة ألف وخمسين ألف مقاتل، فأمر بالقبض عليّ وعلى أخي الحسين وسائر إخواني وأهل بيتي وشيعتنا وموالينا وأن يأخذ علينا البيعة لمعاوية، فمن أبى منّا ضرب عنقه وسيّر إلى معاوية رأسه... إلى أن يقول (عليه السلام): ثم خرجت من الكوفة داخلا إلى المدينة، فجاءوني يقولون: إنّ معاوية أسرى سراياه إلى الأنبار والكوفة وشنّ غاراته على المسلمين، وقتل من لم يقاتله، وقتل النساء والأطفال، فأعلمتهم أنه لا وفاء لهم، فأنفذت معهم رجالاً وجيوشاً وعرفتهم أنهم يستجيبون لمعاوية وينقضون عهدي وبيعتي فلم يكن إلا ما قلت لهم وأخبرتهم (18).
اعتراف الخصم بظلم الشيعة
هناك كثير من الاعترافات التي اعترفها أعداء الشيعة الصريحة بظلمهم إيّاهم نذكر بعضها ومن ذلك:
ما ورد عن صالح بن كيسان، قال: "لما قتل معاوية حجر بن عدي وأصحابه حج ذلك العام فلقي الحسين بن علي (عليه السلام)، فقال: يا أبا عبد الله هل بلغك ما صنعنا بحجر وأصحابه وأشياعه وشيعة أبيك؟
فقال: وما صنعت بهم؟
قال: قتلناهم وكفّناهم وصلّينا عليهم، فضحك الحسين (عليه السلام)، ثم قال: خصمك القوم يا معاوية، لكنّنا لو قتلنا شيعتك ما كفنّاهم ولا صلّيانا عليهم ولا أقبرناهم.
ولقد بلغني وقيعتك في علي (عليه السلام) وقيامك بنقصنا، واعتراضك بني هاشم بالعيوب، فإذا فعلت ذلك فارجع في نفسك، ثم سلها الحق عليها ولها، فإن لم تجدها أعظم عيباً فما أصغر عيبك فيك، فقد ظلمناك يا معاوية ولا توترن غير قوسك ولا ترمين غير غرضك، ولا ترمنا بالعداوة من مكان قريب، فإنك والله قد أطعت فينا رجلاً ما قدم إسلامه، ولا حدث نفاقه، ولا نظر لك، فانظر لنفسك أو دع" (19).
وقال معاوية أيضاً: "ما قتلت أحداً إلاّ وأنا أعرف فيم قتلته وما أردت به، ما خلا حجرا" (20).
وروى الطبري في تأريخه أنّ معاوية كان يقول حين موته: "يوم لي من ابن الأدبر طويل ثلاث مرات ويعني بابن الأدبر حجراً" (21).
صور من سلب حقوق الشيعة في عهد الإمام الحسن (عليه السلام)
لو أردنا أن نستعرض الوقائع التأريخية لما جرى على الشيعة لطال بنا المقام وخرجنا عن نطاق البحث، ولكننا نشير إلى جملة مما جرى عليهم في عهد الإمام الحسن (عليه السلام) وذلك من خلال بيان كتاب معاوية بن أبي سفيان إلى عماله في مختلف ليدرك القارئ العزيز مدى ظلم القوم للشيعة وسلبهم إياهم حقوقهم المختلفة سواء أكانت حقوقاً عقائدية أو سياسية أو اقتصادية أو غير ذلك.
ولكي يسهل الأمر وتتضح صور ظلم القوم للشيعة ومدى تماديهم في غصب حقوقهم فقد استخرجنا من كتاب معاوية بعض البنود الدالة على ذلك:
الحقوق العقائدية
من حق كل مسلم مهما كان مذهبه أو اعتقاده أن تحفظ معتقداته وتصان من التعدي والتسقيط والتجاوز عليها.
ومع الأسف الشديد شيعة الإمام علي (عليه السلام) في عهد معاوية وبحضور الإمام الحسن (عليه السلام) كانت معتقداتهم بل وأعظم معتقداتهم تتعرض للتسقيط والقدح من قبل معاوية وأتباعه جهارا.
فمن أعظم مقدسات الشيعة هو عقيدتهم بالأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وقد كتب معاوية إلى عماله: "أن بَرِئَتِ اَلذِّمَّةُ مِمَّنْ رَوَى شَيْئاً مِنْ فَضْلِ أَبِي تُرَابٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَقَامَتِ اَلْخُطَبَاءُ فِي كُلِّ كُورَةٍ وَعَلَى كُلِّ مِنْبَرٍ يَلْعَنُونَ عَلِيّاً وَيَبْرَءُونَ مِنْهُ وَ يَقَعُونَ فِيهِ وَفِي أَهْلِ بَيْتِهِ"(22).
فهل هناك أعظم من هذه الجسارة على الموالي بحيث يسمع ويرى الخطباء ينالون من إمامه أميرالمؤمنين (عليه السلام) يلعن ويسبّ على المنابر ولا يستطيع رفع ذلك الظلم؟
بمجرد أن رجع من الصلح أمر بجمع الناس وقام فيهم خطيباً، فقال: " أيّها الناس، إنّ رسول الله قال لي: إنّك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدّسة فإنّ فيها الأبدال، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب فلعنوه" (23).
وقد جعل معاوية سبّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) سنّة جارية في خطب الجمعة والأعياد، فكان يخطب الناس ويقول في آخر خطبته: " اللهم إنّ أبا تراب ألحد في دينك، وصدّ عن سبيلك، فالعنه لعناً وبيلاً، وعذّبه عذاباً أليماً، فكانت هذه الكلمات يُشاد بها على المنابر، ثم كتب إلى جميع عمّاله وولادته بلعن أخي رسول الله وسيّد هذه الأمّة، فانبرى الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنونه ويبرؤون منه" (24).
وروى الجاحظ -في ما حكاه عنه ابن أبي الحديد في (شرح النهج) -: "أنّ قوماً من بني أُمية قالوا لمعاوية: يا أمير المؤمنين!إنّك قد بلغت ما أمّلت، فلو كففت عن لعن هذا الرجل؟
فقال: لا والله حتّى يربَو عليها الصغير ويهرم عليها الكبير ولا يذكر له ذاكر فضلاً" (25).
ونُسب إلى السيوطي قوله: "إنّه كان في أيام بني أميّة أكثر من سبعين ألف منبر يلعن عليها علي بن أبي طالب (عليه السلام) بما سنّه لهم معاوية من ذلك، وإلى ذلك يشير الشيخ أحمد الحفظي الشافعي في أرجوزته:
وقد حكى الشيخ السيوطي إنّه --- قد كان فيما جعلوه سنّة
سبعون ألف منبر وعشرة --- من فوقهن يلعنون حيدرة
وهذه في جنبها العظائم --- تصغر بل توجه اللوائم
فهل ترى من سنّها يعادى؟ --- أم لا وهل يستر أو يهادى؟
أو عالم يقول: عنه نسكت؟ --- أجب فإنّي للجواب مُنصت
وليت شعري هل يقال: اجتهدا --- كقولهم في بغيه أم ألحدا؟
أليس ذا يؤذيه أم لا؟ فاسمعن --- إنّ الذي يؤذيه من ومن ومن؟
بل جاء في حديث أم سلمة --- هل فيكم الله يسب مه لمه؟
عاون أخا العرفان بالجواب --- وعاد من عادى أبا تراب (26).
الملفت للنظر أنّ هذا اللعن والسب كان بمحضر ومرأى ابنه الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام).
ففي (تذكرة الخواص): إنّ مروان يشتم علياً (عليه السلام) يوم الجمعة على المنبر، وكان الحسن (عليه السلام) يقعد في حجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى يفرغ" (27).
ولم يكن للشيعة الحق في ذكر فضيلة من فضائل أميرالمؤمنين وأهل بيته (عليهم السلام)، لأنّ معاوية كتب إلى عماله أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضائل أبي تراب وأهل بيته (28).
الحقوق السياسية
من حق كل مسلم في بلاد الإسلام أن يعيش حياة كريمة سعيدة ملأؤها الأمان والحفظ لحقوقه المختلفة.
ومع الأسف الشديد لم يشعر الشيعة عبر العصور خاصة في عهد معاوية بالأمن والأمان، بل ألفوا السجون والتعذيب والقتل والبطش والمصادرة لحرياتهم المختلفة.
ومن أعظم مصادق سلب الشيعة حقوق السياسية أيام الإمام الحسن (عليه السلام) هو:
1- تسليط معاوية زياد بن سميّة حيث ضمّ إليه البصرة، وكان يتتبّع الشيعة وهو بهم عارف، لأنّه كان منهم أيام علي (عليه السلام)، فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطرفهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم (29).
وقد كتب الإمام الحسين (عليه السلام) إلى معاوية: "ثم سلطته -أي زياد بن سميّة- على العراقيين فقطع أيدي المسلمين وسمل أعينهم، وصلبهم على جذوع النخل" (30).
2- رد شهاداتهم: وهذا نوع آخر من سلب حقوق الشيعة السياسية في عهد الإمام الحسن (عليه السلام)، حيث كتب معاوية إلى عمّاله في جميع الآفاق ألا يجيزوا لأحد من شيعة على وأهل بيته شهادة (31).
3- البطش بالشيعة: وقد تفنّن معاوية في هذا المجال، فقتل خيرة من ناصر أميرالمؤمنين (عليه السلام) من الشيعة أمثال حجر بن عدي، ورشيد الهجري، وعمرو بن الحمق الخزاعي، وأوفى بن حصن، وعبدالله الحضرمي، وجويرية العبدي، وصيفي بن فسيل، وعبدالرحمن العنزي.
وقد كتب الإمام الحسين (عليه السلام) كتاباً إلى معاوية أشار فيه إلى ظلامة الشيعة وعظم المآسي التي نزلت بهم منه، قال: "ألست قاتل حجر بن عدي أخي كندة وأصحابه الصالحين المطيعين العابدين، كانوا ينكرون الظلم، ويستعظمون المنكر والبدع، ويؤثرون حكم الكتاب، ولا يخافون في الله لومة لائم، فقتلتهم ظلما وعدوانا، بعدما كنت أعطيتهم الإيمان المغلظة، والمواثيق المؤكدة، لا تأخذهم بحدث كان بينك وبينهم، ولا بأحنة تجدها في صدرك عليهم؟
أولست قاتل عمرو ابن الحمق صاحب رسول الله، العبد الصالح الذي أبلته العبادة فصفرت لونه، ونحلت جسمه، بعد أن أمنته وأعطيته من عهود الله عزّ وجلّ وميثاقه ما لو أعطيته العصم ففهمته لنزلت إليك من شعف الجبال، ثم قتلته جرأة على الله عزّ وجلّ، واستخفافا بذلك العهد؟ (32).
وفي كتاب آخر (عليه السلام) كتبه لمعاوية: "أولست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زياد أنه على دين علي (عليه السلام)، فكتبت إليه: أن اقتل كل من كان على دين عليّ، فقتلهم ومثّل بهم بأمرك؟" (33).
ولم يقتصر معاوية على تنكيله برجال الشّيعة، وإنّما تجاوز ظلمه إلى نسائهم، فأشاع الذعر والإرهاب في العديد منهنّ، مثل: الزرقاء بنت عدي، وسودة بنت عمارة، واُمّ الخير البارقيّة.
وقد بلغ الأمر بالشيعة في عهد معاوية كما عن ابن أبي الحديد المعتزلي: "فلم يكن البلاء أشد ولا أكثر منه بالعراق ولا سيما بالكوفة حتى إنّ الرجل من شيعة علي (عليه السلام) ليأتيه من يثق به فيدخل بيته فيلقى إليه سرّه ويخاف من خادمه ومملوكه ولا يحدّثه حتى يأخذ عليه الأيمان الغليظة ليكتمنّ عليه (34).
وفي حديث لبعض رجال الشيعة بيّن لمحمد بن الحنفية فيه ما يجري عليهم من قبل مآسي وويلات، قال: "فما زال بنا الشين في حكم ضربت عليه الأعناق، وأبطلت الشهادات، وشرّدنا في البلاد، وأوذينا حتى لقد هممت أن أذهب في الأرض قفرا، فأعبدالله حتى ألقاه، لولا أن يخفى عليّ أمر آل محمد (صلى الله عليه وآله) وحتى هممت أن أخرج مع أقوام شهادتنا وشهادتهم واحدة على أمرائنا فيخرجون فيقاتلون (35).
4- سجن الشيعة: يقول المسعودي: حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي وعبدالله اليشكري ورجالاً من أصحاب علي (عليه السلام) مع رجال من قريش (36).
وكان محمّد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام) ومن أنصاره وأشياعه، وكان ابن خال معاوية وكان رجلاً من خيار المسلمين.
فلمّا توفّي عليّ (عليه السّلام) أخذه معاوية وأراد قتله فحبسه في السّجن دهراً، ثم قال معاوية ذات يوم: ألا نرسل إلى هذا السّفيه محمّد بن أبي حذيفة فنبكته ونخبره بضلالته ونأمره أن يقوم فيسبّ عليّاً (عليه السّلام)؟
قالوا: نعم.
قال: فبعث إليه معاوية وأخرجه من السّجن، فقال له معاوية: يا محمّد بن [أبي] حذيفة
ألم يأن لك أن تبصّر ما كنت عليه من الضّلالة بنصرتك عليّ بن أبي طالب الكذّاب؟
ألم تعلم أنّ عثمان قتل مظلوماً، وأنّ عائشة وطلحة والزّبير خرجوا يطلبون بدمه، وأنّ عليّا هو الّذي دسّ في قتله ونحن اليوم نطلب بدمه؟
قال محمّد بن أبي حذيفة: انّك لتعلم أنّي أمسّ القوم بك رحما وأعرفهم بك؟
قال: أجل.
قال: فو اللّٰه الّذي لا إله غيره ما أعلم أحدا شرك في دم عثمان وألّب النّاس عليه غيرك لما استعملك ومن كان مثلك فسأله المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى ففعلوا به ما بلغك؛ وواللّٰه ما أحد اشترك في قتله بدءاً وأخيرا إلاّ طلحة والزّبير وعائشة فهم الّذين شهدوا عليه بالعظيمة وألّبوا عليه النّاس وشركهم في ذلك عبد الرّحمن ابن عوف وابن مسعود وعمّار والأنصار جميعاً.
قال: قد كان ذلك.
قال: فو اللّٰه إنّي لأشهد أنّك مذ عرفتك في الجاهليّة والإسلام لعلى خلق واحد؛ ما زاد فيك الإسلام قليلا ولا كثيرا؛ وأنّ علامة ذاك فيك لبيّنة تلومني على حبّ عليّ (عليه السّلام) ؛ خرج مع عليّ (عليه السّلام) كلّ صوّام قوّام مهاجريّ وأنصاريّ، وخرج معك أبناء المنافقين والطّلقاء والعتقاء خدعتهم عن دينهم وخدعوك عن دنياك؛ واللّٰه ما خفي عليك ما صنعت، وما خفي عليهم ما صنعوا، إذ أحلّوا أنفسهم لسخط اللّٰه في طاعتك؛ واللّٰه لا أزال أحبّ عليّاً (عليه السّلام) للّٰه ولرسوله وأبغضك في اللّٰه ورسوله أبدا ما بقيت.
قال معاوية: وإنّي أراك على ضلالك بعد، ردّوه؛ فردّوه وهو يقرأ في السّجن: ربّ السّجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه. فمات في السّجن (37).
الحقوق الاقتصادية
ومن حقوق الشيعة التي صودرت وسلبت في عهد الإمام الحسن (عليه السلام) هي الحقوق الاقتصادية، فكل مسلم في العالم الإسلامي له حقوق اقتصادية ينبغي توفيرها له، ومن ذلك حرمة أمواله وممتلكاته ووجوب تأمين احتياجاته من بيت المال وغير ذلك.
وقد عانى الشيعة في عهد الإمام المجتبى (عليه السلام) من مصادرة ممتلكاتهم ومنعهم العطاء من بيت المال والتضييق الاقتصادي عليهم.
فقد نقل المؤرخون أنّ معاوية أمر بحرمان كل من عُرف منه موالاة علي (عليه السلام) من العطاء وإسقاطه من الديوان، فقد كتب إلى عمّاله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا إلى من أقامت عليه البيّنة إنّه يحب علياً وأهل بيته فامحوه من الديوان وأسقطوا عطائه ورزقه (38).
وقيل: إنّ حجر بن عدي صاح بالمغيرة في المسجد قائلاً: " مر لنا أيها الإنسان بأرزاقنا، فقد حبستها عنّا وليس ذلك لك، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين.
فقام أكثر من ثلثي الناس يقولون: صدق حجر وبر" (39).
وقد بلغ الأمر بأهل المدينة أنّ الرجل منهم يعجز عن شراء راحلة له يستعين بها على شؤونه، ولمّا حجّ معاوية وقرب من المدينة تلقّاه الناس، وتلقّته الأنصار وأكثرها مشاة، فقال: ما منعكم من تلقّيّ من بُعد كما تلقّاني الناس من بُعد؟
فقال ابن لسعد بن عبادة يقال له سعيد: منعنا من ذلك قلَّة الظهر وخفّة ذات اليد بإلحاح الزمان علينا وإيثارك بمعروفك غيرنا، فقال معاوية كالمعيّر لهم: فأين أنتم عن نواضح المدينة؟
قالوا: أحرثناها يوم بدر، يوم قتلنا حنظلة بن أبي سفيان، فأعرض معاوية عنه وتبسّم وقال: حبجة بلبجة، والبادئ أظلم (40).
حق السُكنى
لم يكتف معاوية بحرمان الشيعة من بيت المال وإيداعهم السجون والتنكيل بهم، بل نغّص عليهم رغد العيش فحرمهم من أبسط حقوق العيش وهو العيس تحت ظل سقف، حيث أوعز إلى بعض عمّاله بهدم دور الشيعة فقاموا بنقضها.
وإلى ذلك يشير الإمام الباقر (عليه السلام) بقوله: " وقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة، وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سجن، أو نهب ماله، أو هدمت داره (41).
وكان ممّن قُتل من الشيعة وهدمت داره هو حجر بن عدي الكندي حيث هدم زياد بن سميّة داره (42).
موقف الإمام الحسن (عليه السلام) إزاء سلب حقوق الشيعة
لم يكن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) غائباً عما يجري على الشيعة من اضطهاد وظلم وغصب لأبسط الحقوق، بل كان مطلعاً على كل شاردة وواردة، ولذا اتبع في بداية أمره نهج أبيه وأعدّ العدّة وجيّش الجيوش لمحاربة معاوية بن أبي سفيان.
ولكن وللأسف لم يحظ الإمام الحسن (عليه السلام) بالنصير الكفوء والمحامي المُستميت، بل عانى من الخذلان وخيانة الناصر، وقد صرح الإمام (عليه السلام) بذلك، فقال: "أرى الناس يقولون: إنّ الحسن بن علي بايع معاوية طائعاً غير مكره، وأيم الله ما فعلت حتى خذلني أهل العراق، ولولا ذلك ما بايعته ولا نعمة عين" (43).
وهذا تصريح جلي منه (عليه السلام) أنّه لم يكن لديه أنصار بالمستوى ليقاتل بهم معاوية.
وقال (عليه السلام): "ولكنّي عرفت أهل الكوفة، وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم من كان فاسداً، إنّهم لا وفاء لهم ولا ذمّة في قول ولا فعل، إنّهم لمختلفون، ويقولون لنا: إنّ قلوبهم معنا، وأنّ سيوفهم لمشهورة علينا" (44).
وقيل له (عليه السلام): ماحملك على ما فعلت؟
فقال (عليه السلام): " كرهت الدنيا ورأيت أهل الكوفة قوما لا يثق بهم أحد أبداً إلا غلب ليس أحد منهم يوافق في رأي ولا هواء مختلفين لا نيّة لهم في خير ولا شر لقد لقي أبي منهم أموراً عظاما فليت شعري لمن يصلحون بعدي وهي أسرع البلاد خربا!" (45).
وبلغ الأمر ببعض من كانوا حول الإمام (عليه السلام) أن بعث إلى معاوية: إنّا معك، وإن شئت أخذنا الحسن وبعثناه إليك (46).
وكتب جماعة من رؤساء القبائل إلى معاوية بالسمع والطاعة له في السر، واستحثّوه على المسير نحوهم، وضمنوا له تسليم الإمام الحسن (عليه السلام) إليه عند دنوّهم من عسكره أو الفتك به (47).
مجمل هذه الأمور وغيرها حدت بالإمام الحسن (عليه السلام) أن يختار الصلح مع معاوية مقدماً صلاح الشيعة وحقوقهم على مرارة الصلح مع معاوية الذي عاث بالبلاد الفساد واستولى على رقاب العباد.
وقد صرّح الإمام الحسن (عليه السلام) بذلك في كلام له مع مع سليمان بن صرد الخزاعي: "أنّي لم أرد بما رأيتم إلا حقن دمائكم، وإصلاح ذات بينكم... وأمّا قولك: يا مُذلّ المؤمنين، فوالله لأن تذلّوا وتعافوا أحب إلي من أن تعزّوا وتقتّلوا، فإن ردّ الله علينا حقّنا في عافية قبلنا، وسألنا الله العون على أمره، وإن صرفه عنّا رضينا، وسألنا الله أن يبارك في صرفه عنا" (48).
وقال (عليه السلام) لمّا دخل عليه الناس بعد الصُلح: "ويحكم ما تدرون ماعملت؟ والله الذي عملت خير لشيعتي ممّا طلعت عليه الشمس أو غربت" (49).
ودخل عليه بشير الهمداني وكان (عليه السلام) في يثرب، فقال له: السلام عليك يا مُذلّ المؤمنين.
فقال (عليه السلام): "وعليك السلام اجلس".
ولمّا استقرّ به المجلس التفت إليه، وقال: "لست مُذلاً للمؤمنين، ولكنّي معزّهم، ما أردت بمصالحتي إلا أن أدفع عنكم القتل عند ما رأيت تباطؤ أصحابي ونكولهم عن القتال" (50).
وقال (عليه السلام): " لولا ما أتيت لما تُرك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلا قُتل" (51).
ماذا أراد الإمام الحسن (عليه السلام) بالصلح مع معاوية؟
ممّا يؤسف له حقيقة أنّ كثير ممّن حكموا على صلح الإمام الحسن (عليه السلام) غابت عنهم المواد التي صالح الإمام (عليه السلام) عليها مع معاوية، ولذا رموه بأنه أذلّ المؤمنين، ولذا ينبغي أن نقف قليلاً عند مواد الصلح قليلاً ونتأمّل فيها ليتضح لنا ماذا كان يُريد الإمام (عليه السلام) من الصُلح، علماً أنّ المؤرخين ذكروا أنّ الإمام (عليه السلام) هو الذي عيّن هذه المواد ومعاوية وافق عليها.
قال المؤرّخون: " أرسل معاوية إلى الحسن بصحيفة بيضاء مختوم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه ما شئت فما اشترطت فهو لك" (52).
وبالفعل لما صالح الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية اشترط عليه عدّة شروط توحي إلى أمور هي في غاية الأهمية، وتنتهي في الأخير إلى فضح معاوية للعالم وبيان حقيقته على أنّه غير ملتزم بمثل هذه الشروط.
فقد ذكر المؤرّخون نص ما صالح الإمام الحسن (عليه السلام) عليه معاوية وهو: "
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية بن أبي سفيان، صالحه على أن يسلّم إليه ولاية المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب الله وسنّة رسوله وليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً على أن الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى في شامهم ويمنهم وعراقهم وحجازهم وعلى أن أصحاب علي وشيعته آمنون على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا وعلى معاوية بذلك عهد الله وميثاقه وعلى أن لا يبغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول الله غائلة سوء سراً وجهراً ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق شهد عليه بذلك فلان وفلان وكفى بالله شهيداً" (53).
وهنا ينبغي أن نسلط الضوء على كيفية مساهمة هذه البنود في حفظ حقوق الشيعة، فنقول:
من أهم بنود الصُلح هو:
1- أن يعمل معاوية بكتاب الله: ولو كان الإمام (عليه السلام) يرى أنّ معاوية يعمل بكتاب الله ويسير على نهج الإسلام لما اشترط عليه هذا الشرط وجعله من أهم الشروط الأساسية التي ألزمه بها.
وفي الحقيقة لو التزم معاوية بهذا الشرط ما سلب حقوق الشيعة ولما صبّ عليهم وابل حقده الدفين وتفنّن في ظلمهم.
أضف إلى ذلك أنّ من أبسط وصايا القرآن الكريم هو عدم ظلم الآخرين والتجاوز على حقوقهم والنكاية بهم.
2- الأمن العام: وهذا الشرط يكشف عن حرص الإمام الحسن (عليه السلام) على أمن الرعيّة من المسلمين خاصة الموالين منهم حيث ورد في الصُلح: "أن لا يأخذ أهل العراق بإحنّة ما مضى"، لأنه (عليه السلام) يعلم طبع معاوية وأنّه لن يصفح ويغض الطرف عن الموالين وأهل العراق بالذات لنصرتهم أهل البيت (عليهم السلام) ومحاربتهم إيّاه.
يقول الشيخ آل ياسين (رحمه الله): "واعتصم فيها بالأمان لشيعته وشيعة أبيه وإنعاش أيتامهم، ليجزيهم بذلك على ثباتهم معه ووفائهم مع أبيه، وليحتفظ بهم أمناء على مبدئه وأنصاراً مخلصين لتمكين مركزه ومركز أخيه، يوم يعود الحق إلى نصابه" (54).
3- ترك سب أميرالمؤمنين (عليه السلام): وهذا الشرط يكشف عن أنّ معاوية كان يتجاوز على عقيدة الشيعة والمسلمين بسبّه لأميرالمؤمنين (عليه السلام).
ولم يقتصر معاوية على سب أميرالمؤمنين (عليه السلام)، بل كان يدعو إلى سبّه والنيل منه، لذا اشترط عليه الإمام (عليه السلام) أن يكفّ عن هذا السب ولكنّه لم يرتدع عن ذلك وبمجرد أن تراجع عن الصلح أمر بجمع الناس وقام فيهم خطيباً، فقال: " أيّها الناس: إنّ رسول الله قال لي: إنّك ستلي الخلافة من بعدي فاختر الأرض المقدّسة فإنّ فيها الأبدال، وقد اخترتكم فالعنوا أبا تراب فلعنوه" (55).
وقد جعل معاوية سبّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) سنّة جارية في خطب الجمعة والأعياد، فكان يخطب الناس ويقول في آخر خطبته: " اللهم إنّ أبا تراب ألحد في دينك، وصدّ عن سبيلك، فالعنه لعناً وبيلاً، وعذّبه عذاباً أليماً، فكانت هذه الكلمات يُشاد بها على المنابر، ثم كتب إلى جميع عمّاله وولادته بلعن أخي رسول الله وسيّد هذه الأمّة، فانبرى الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنونه ويبرؤون منه" (56).
وقال المسعودي في (مروج الذهب) عند ذكره لأتباع معاوية واشتدادهم في طاعته: "ثمّ ارتقى بهم الأمر في طاعته إلى أن جعلوا لعن عليّ سُنّة ينشأ عليها الصغير ويهلك عليها الكبير" (57).
4- الأمن العام للشيعة: تعرّض الشيعة أيام معاوية بن أبي سفيان إلى حرب إبادة شاملة.
وقد ذكر الإمام الباقر (عليه السلام) جرى على الشيعة في عهد معاوية لبعض أصحابه، فقال: "يافلان، ما لقينا من ظلم قريش إيانا، وتظاهرهم علينا، وما لقي شيعتنا ومحبّونا من الناس...إلى أن يقول (عليه السلام): وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام) فقُتلت شيعتنا بكل بلدة وقطعت الأيدي والأرجل على الظنّة وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سُجن أو نُهب ماله أو هُدمت داره" (58).
وقال ابن أبي الحديد: " وروى أبو الحسن علي بن محمد بن أبي سيف المدايني في كتاب (الأحداث)، قال: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبى تراب وأهل بيته، فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرأون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته، وكان أشدّ الناس بلاء حينئذ أهل الكوفة لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام) فاستعمل عليهم زياد بن سميّة وضم إليه البصرة فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام) فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون وصلبهم على جذوع النخل وطرفهم وشرّدهم عن العراق فلم يبق بها معروف منهم" (59).
وقال ابن أبي الحديد أيضاً: " روى الشرقي بن القطامي، قال: كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس شيعة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام): فلما قدم زياد الكوفة طلبه وأخافه، فأتى الحسن بن علي (عليه السلام) مستجيراً به، فوثب زياد على أخيه وولده وامرأته فحبسهم وأخذ ماله، ونقض داره.
فكتب الحسن بن علي (عليه السلام) إلى زياد: أمّا بعد فإنّك عمدت إلى رجل من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، فهدمت داره، وأخذت ماله، وحبست أهله وعياله، فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره، وأردد عليه عياله وماله، وشفّعني فيه، فقد أجرته والسلام.
فكتب إليه زياد: من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة: أمّا بعد: فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي، وأنت طالب حاجة وأنا سلطان وأنت سوقه، وتأمرني فيه بأمر المطاع المسلّط على رعيته.كتبت إلى في فاسق آويته.إقامة منك على سوء الرأي ورضا منك بذلك، وأيم الله لا تسبقني به ولو كان بين جلدك، ولحمك وإن نلت بعضك غير رفيق بك ولا مرع عليك فإن، أحب لحم على أن آكله للحم الذي أنت منه، فسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك، فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه، وإن قتلته لم أقتله إلا لحبّه أباك الفاسق والسلام.
فلمّا ورد الكتاب على الحسن (عليه السلام) قرأه وتبسّم، وكتب بذلك إلى معاوية، وجعل كتاب زياد عطفه، وبعث به إلى الشام، وكتب جواب كتابه كلمتين لا ثالثه لهما: من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سميّة، أمّا بعد، فإنّ رسول الله ص قال: الولد للفراش، وللعاهر الحجر، والسلام.
فلمّا قرأ معاوية كتاب زياد إلى الحسن ضاقت به الشام، وكتب إلى زياد: أمّا بعد، فإنّ الحسن بن علي بعث إلى بكتابك إليه جواباً عن كتاب كتبه إليك في أبن سرح، فأكثرت العجب منك، وعلمت أنّ لك رأيين أحدهما من أبي سفيان، والآخر من سميّة، فأمّا الذي من أبي سفيان فحلم وحزم وأمّا الذي من سميّة، فما يكون من رأى مثلها! من ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه، وتعرّض له بالفسق، ولعمري إنّك الأولى بالفسق من أبيه.
فأمّا أنّ الحسن بدأ بنفسه ارتفاعاً عليك، فإنّ ذلك لا يضعك لو عقلت، وأمّا تسلطه عليك بالأمر فحق لمثل الحسن أن يتسلّط، وأمّا تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك، فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك.
فإذا ورد عليك كتابي فخلّ ما في يديك لسعيد بن أبي سرح وابن له داره، واردد عليه ماله، ولا تعرّض له، فقد كتبت إلى الحسن أن يخيره، إن شاء أقام عنده، وإن شاء رجع إلى بلده، ولا سلطان لك عليه لابيد ولا لسان.
وأمّا كتابك إلى الحسن باسمه واسم أمّه، ولا تنسبه إلى أبيه، فإنّ الحسن ويحك! من يُرمى به الرجوان وإلى أيّ أُمّ وكلته لا أُمّ لك!
أما علمت أنّها فاطمة بنت رسول الله، فذاك أفخر له لو كنت تعلمه وتعقله! وكتب في أسفل الكتاب شعراً من جملته:
أمّا حسن فابن الذي كان قبله --- إذا سار سار الموت حيث يسير
وهل يلد الرئبال إلا نظيره --- وذا حسن شبه له ونظير
ولكنّه لو يوزن الحلم والحجا --- بأمر لقالوا يذبل وثبير" (60).
5- تأمين الشيعة من بيت المال: ذكرنا أنّ معاوية حارب الشيعة بشتى السبل ومنها الحرب الاقتصادية حيث ضيّق عليهم العيش وحرمهم من بيت المال بما فيهم.
ومن الشروط التي اشترط الإمام الحسن (عليه السلام) على معاوية أن يعطيه ما في بيت مال الكوفة، ومبلغه خمسة آلاف ألف، وخراج دارابجرد من فارس (61).
أوضاع الشيعة بعد عهد الإمام الحسن (عليه السلام)
يستفاد من بعض النصوص التأريخية أنّ وضع الشيعة استاء جدا بعد شهادة الإمام الحسن (عليه السلام) ومن ذلك ماروي: أنّ معاوية كتب نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة: "أن برئت الذمة ممّن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته.
فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً، ويبرؤون منه، ويقعون فيه وفي أهل بيته.
وكان أشد الناس بلاءً حينئذٍ أهل الكوفة، لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام)، فاستعمل عليهم زياد بن سمية وضم إليه البصرة، فكان يتتبع الشيعة وهو بهم عارف، لأنه كان منهم أيام علي (عليه السلام)، فقتلهم تحت كل حجر ومدر وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم، وشردهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم.
فلم يزل الأمر كذلك حتى مات الحسن بن علي (عليه السلام)، فازداد البلاء والفتنة، فلم يبق أحد من هذا القبيل إلا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض (62).
وهذا النص صريح بأن أوضاع الشيعة استاءت بعد شهادة الإمام الحسن (عليه السلام) بحيث إنّ البلاء والفتنة ازدادا، ولم يبق أحد من الموالين الشيعة إلا وهو خائف على دمه أو طريد في الأرض، فسلام الله عليك يا سيّدي يا أبا محمد المجتبى يوم ولدت، ويوم عشت مظلوماً غريباً، ويوم تبعث حياً.
اضف تعليق