من أهم ما خلّفه الإمام الباقر من التراث القرآني هو التفسير وبيان معاني القرآن الكريم الذي يعد عدلاً لأهل البيت ومن المؤسف حقاً أنّ التراث التفسيري للإمام الباقر (قلّما يسلّط على الأضواء رغم أنه من أهم التراث القرآني. هناك عدة خصائص للتراث التفسيري الوارد عنه (عليه السلام) ومنها...

ترك الإمام الباقر (عليه السلام) تراثاً علمياً عظيماً في مجالات شتى ومنها التراث العقائدي، والفقهي، والأصولي، والقرآني.

ومن أهم ما خلّفه الإمام الباقر (عليه السلام) من التراث القرآني هو التفسير وبيان معاني القرآن الكريم الذي يعد عدلاً لأهل البيت (عليهم السلام).

ومن المؤسف حقاً أنّ التراث التفسيري للإمام الباقر (عليه السلام) قلّما يسلّط على الأضواء رغم أنه من أهم التراث القرآني.

خصائص التراث التفسيري الوارد عن الإمام الباقر (عليه السلام)

هناك عدة خصائص للتراث التفسيري الوارد عن الإمام الباقر (عليه السلام) ومنها:

1- أنّ هذا التراث وارد عمّن أمرنا الباري تعالى بالرجوع والسؤال منهم، فقال: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (1).

وفي الحديث أنّ زرارة سأل الإمام الباقر (عليه السلام) عن أهل الذكر في الآية من هم، فقال: نحن.

فقال زرارة: فمن المأمورون بالمسألة؟

قال: أنتم (2).

2- أنّ الرجوع إلى هذا التراث يعصمنا من الوقوع في مهاوي التفسير بالرأي الذي نهى عنه أهل البيت (عليهم السلام).

يقول زيد الشحام: دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر (عليه السلام)، فقال: يا قتادة أنت فقيه‏ أهل‏ البصرة؟

فقال: هكذا يزعمون.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): بلغني أنك تفسر القرآن؟

فقال له قتادة: نعم.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام): بعلم تفسره أم بجهل؟

قال: لا بعلم.

فقال له أبو جعفر (عليه السلام): فإن كنت تفسّره بعلم فأنت أنت‏ وأنا أسألك.

قال قتادة: سل.

قال: أخبرني عن قول الله عز وجل في سبأ: وقدّرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين‏؟

فقال قتادة: ذلك من خرج من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت كان آمنا حتى يرجع إلى أهله.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): نشدتك الله يا قتادة هل تعلم أنه قد يخرج الرجل من بيته بزاد حلال وراحلة وكراء حلال يريد هذا البيت فيقطع عليه الطريق فتذهب نفقته ويضرب مع ذلك ضربة فيها اجتياحه‏؟

قال قتادة: اللهم نعم.

فقال أبو جعفر (عليه السلام): ويحك يا قتادة إن كنت إنما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت... ويحك يا قتادة إنما يعرف القرآن من خوطب به (3).

3- أنّ هذا التفسير يطلعنا على خفايا القرآن الكريم المُستترة ويكشف لنا عن العمق القرآني المطوي في بطونه.

يقول جابر: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من تفسير القرآن فأجابني، ثم سألت ثانياً فأجابني بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك كنت أجبت في هذه المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم؟!

فقال لي: يا جابر إنّ للقرآن بطناً، وللبطن بطناً وظهراً، وللظهر ظهراً، يا جابر وليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إنّ الآية لتكون أوّلها في‏ شيء وآخرها في شيء، وهو كلام متصل ينصرف على وجوه (4).

4- أنّ في مطاوي هذا التفسير نكات وحقائق لم يطّلع عليها سوى الراسخون في العلم.

يقول جميل بن صالح‏: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: ‏ الم غلبت الروم في أدنى الأرض‏- فقال: إنّ لهذا تأويلاً لا يعلمه إلا الله و الراسخون في العلم من آل محمد... إلى أن قال:

 ألم أقل لك إنّ‏ لهذا تأويلاً وتفسيراً والقرآن ناسخ ومنسوخ (5).

مقتطفات تراث الإمام الباقر (عليه السلام) في التفسير

لكي نطلع على عظمة تفسير الإمام الباقر (عليه السلام) للقرآن الكريم وندرك عمق ما فيه من حقائق ينبغي أن نشير إلى بعض الشواهد من تفسيره ومن ذلك:

الكشف عن المعنى اللفظي

في موارد متعددّة من القرآن الكريم ظاهر اللفظ لايكون مقصوداً بل المراد أمر آخر، وكمثال على ذلك قوله تعالى: لا تقربا هذه الشجرة، فإن الظاهر من تقربا مطلق القرب ولكن الإمام الباقر (عليه السلام) بيّن المعنى المقصود من القرب، فقال: لا تأكلا منها (6).

وفسّر الإمام الباقر (عليه السلام) الفوم في قوله تعالى: من بقلها وقثائها وفومها، فقال: إنه الحنطة (7)، والحال أن الظاهر منه هو الثوم.

وفسّر (عليه السلام) الربيّون في قوله تعالى: وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير، فقال: ربيّون عشرة آلاف (8).

 وفي بعض الموارد التمسّك بظاهر القرآن يستلزم محاذير كبيرة كما في قوله تعالى: وسع كرسيه السماوات والأرض، لكن الإمام الباقر (عليه السلام) رفع ذلك المحذور بتفسيره لمعنى الكرسي، فقال: معنى كرسيه علمه (9).

التوجيه العقائدي السليم

وتضمّن تفسير الإمام الباقر (عليه السلام) للقرآن الكريم توجيه مجموعة من الآيات المباركة حسب العقيدة السليمة الموافقة للمعتقدات الراسخة.

ففي بيان قوله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه قال (عليه السلام): يفنى كل شيء ويبقى وجه الله أعظم من أن يوصف، لا، ولكن معناها: كل شيء هالك إلا دينه (10).

وفي بيان المُراد من قوله تعالى: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، قال الإمام (عليه السلام) لجابر بن يزيد الجعفي: يا جابر ما أعظم فرية أهل الشام على الله- يزعمون أن الله تبارك و تعالى حيث صعد إلى السماء- وضع قدمه‏ على‏ صخرة بيت المقدس، ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على حجر- فأمرنا الله تبارك وتعالى أن نتخذها مصلّى، يا جابر، إنّ الله تبارك وتعالى لا نظير له و لا شبيه، تعالى عن صفة الواصفين و جل عن أوهام المتوهمين، وأحجب عن عين الناظرين لا يزول مع الزائلين- ولا يأفل مع الآفلين‏ ليس كمثله شيء وهو السميع العليم‏(11).

بيان أسباب نزول الآيات

وقد امتاز أيضاً تفسير الإمام الباقر (عليه السلام) ببيان مجموعة من أسباب نزول الآيات القرآنية الأمر الذي اطلع كثيراً من مفسرّي القرآن على أسباب نزول الآيات وخواصها ومزاياها واحاطهم بخصائص الآيات وأعانهم في تفسيرها.

فقد بيّن الإمام (عليه السلام) سبب نزول قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فيهِ خَيْراً كَثيرا (12).

قال (عليه السلام): كان في الجاهلية في أول ما أسلموا من قبائل العرب إذا مات‏ حميم‏ الرجل‏ وله امرأة -ألقى الرجل ثوبه عليها- فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها-، فكان يرث نكاحها كما يرث ماله، فلما مات أبو قيس بن الأسلب أبو قبيس بن الأسلت‏ ألقى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه -وهي كبيثة بنت معمر بن معبد فورث نكاحها، ثم تركها لا يدخل بها ولا ينفق عليها- فأتت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقالت: يا رسول الله مات أبو قيس بن الأسلب فورث ابنه محصن نكاحي، فلا يدخل علي ولا ينفق علي- ولا يخلي سبيلي فألحق بأهلي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ارجعي إلى بيتك- فإن يحدث الله في شأنك شيئا أعلمتك به، فنزلت الآية (13).

بيان الوجوه الفقهية

ومن امتيازات تفسير الإمام الباقر (عليه السلام) أنه بيّن كثيراً من الأحكام والمباني الفقهية من آيات القرآن الكريم.

يقول زرارة: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أ لا تخبرني من أين علمت وقلت: إن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟

 فضحك وقال: يا زرارة قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونزل به الكتاب من الله، لأنّ الله عزّ وجل قال: فاغسلوا وجوهكم‏، فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل، ثم قال: ‏ وأيديكم إلى المرافق‏ فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين.

ثم فصل بين الكلام‏ فقال: وامسحوا برؤسكم‏، فعرفنا حين قال: ‏ برؤوسكم‏ أنّ المسح ببعض الرأس لمكان‏ الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه، فقال: وأرجلكم إلى الكعبين‏ فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما.

ثم فسّر ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) للناس فضيّعوه‏، ثم قال: فلم تجدوا ماء فتيمّموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم‏ فلما أن وضع الوضوء عمن لم يجد الماء أثبت بعض الغسل مسحاً، لأنه قال: ‏ بوجوهكم‏ ثم وصل بها، وأيديكم‏ منه‏ أي من ذلك التيمّم لأنه علم‏ أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه لأنه يعلق من ذلك‏ الصعيد ببعض الكف ولا يعلق ببعضها ثم قال الله‏ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج‏ والحرج الضيق (14).

.........................................

 (1) سورة النحل: 43.

 (2) بصائر الدرجات: 1/39.

 (3) الکافي: 8/311.

 (4) تفسير القمي: 1/19-20.

 (5) تفسير القمي: 2/152.

 (6) تفسير العياشي: 1/35.

 (7) تفسير القمي: 1/48.

 (8) تفسير الصافي: 1/390.

 (9) التبيان في تفسير القرآن: 2/309.

 (10) المحاسن: 1/219.

 (11) تفسير العياشي: 1/59.

 (12) سورة النساء: 19.

 (13) تفسير القمي: 1/134.

 (14) الکافي: 3/30.


اضف تعليق