على الرغم أنّ امتحان الشيعة كان صعباً لأنهم لم يسبقوا بهكذا امتحان إلا أنّ الإمام الجواد استطاع أن يأخذ بيدهم ويقنعهم بإمامته بل ويثبت لهم ركناً عظيماً من أركان الإمامة وهو أن الكبر والصغر ليسا من ملاكات الإمامة. ولا يخفى أنّ الأئمة الأطهار ممّن سبقوا الإمام الجواد تعرضوا...
من أشد الابتلاءات الصعبة التي عصفت بالشيعة عبر التأريخ هو امتحانهم في عهد الإمام الجواد (عليه السلام) حيث استشهد أبوه الإمام الرضا (عليه السلام) ولم يتجاوز من عمره الشريف سبعة أعوام.
يقول الطبري الشيعي -أحد علماء القرن الرابع الهجري-: ولما بلغ سنّه- الإمام الجواد (عليه السلام) - ست سنوات وبضعة شهور قتل المأمون أباه، فحار الشيعة، ووقع الخلاف بين الناس، واستصغروا سنّ أبي جعفر واحتارت الشيعة في البلاد(1).
فلم يعهد من قبل عهد الإمام الجواد (عليه السلام) أن تصل الإمامة إلى إمام وهو بهذا السن، ولذا فقد وقع الشيعة في حيرة من أمرهم، ولم تقتصر هذه الحيرة على عوام الشيعة بل تسرت إلى بعض الخواص أمثال يونس بن عبدالرحمن الثقة.
يقول صفوان بن يحيى: قلت للرضا (عليه السلام) قد كنّا نسألك عن الإمام بعدك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر وكنت تقول: يهب الله لي غلاماً، وقد وهب الله لك وأقر عيوننا ولا أرانا الله يومك، فإن كانت الحادثة فإلى من نفزع؟
فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه، فقلت: جعلت فداك وهو ابن ثلاث سنين؟!
فقال (عليه السلام): وما يضره ذلك؟ قد قام عيسى (عليه السلام) بالحجّة وهو ابن سنتين.
ولمّا قبض الرضا (عليه السلام) كان سن أبي جعفر (عليه السلام) نحو سبع سنين، فاختلفت الكلمة بين الناس ببغداد وفي الأمصار، واجتمع الريّان بن الصلت، وصفوان بن يحيى، ومحمد ابن حكيم، وعبد الرحمن بن الحجاج، ويونس بن عبد الرحمن، وجماعة من وجوه الشيعة وثقاتهم، في دار عبد الرحمن بن الحجاج في بركة زلول يبكون ويتوجّعون من المصيبة، فقال لهم يونس بن عبد الرحمن: دعوا البكاء من لهذا الأمر؟ وإلى من نقصد بالمسائل إلى أن يكبر هذا؟ يعني أبا جعفر (عليه السلام).
فقام إليه الريّان بن الصلت ووضع يده في حلقه ولم يزل يلطمه ويقول له: أنت تظهر الإيمان لنا وتبطن الشك والشرك، إن كان أمره من الله، فلو أنه كان ابن يوم واحد لكان بمنزلة الشيخ العالم وفوقه، وإن لم يكن من عند الله فلو عُمّر ألف سنة فهو واحد من الناس هذا ممّا ينبغي أن يفكر فيه، فاقبلت العصابة عليه تعذله وتوبّخه(2).
تحرّي الشيعة حول الإمام (عليه السلام)
على الرغم أن محنة الشيعة كانت صعبة جدا وزلّت فيها أقدام بعضهم فمالوا يميناً وشمالاً واضطربوا في مذاهبهم إلا أنّ جماعة منهم لم يحيدوا عن جادة الصواب وثبتوا على الحق ولم يتزلزلوا أبداً.
ولذا عمد جماعة من الشيعة كعادتهم بعد شهادة كل إمام إلى التحرّي والتحقيق حول الإمام من بعد الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)، فأرشدهم البعض إلى عبدالله بن موسى بن جعفر (عليه السلام) وكان شيخاً، فتعجّبوا وقالوا: قد روينا عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أنه لا تجتمع الإمامة في أخوين بعد الحسن والحسين وليس هذا صاحبنا.
فجاء حتى جلس في صدر المجلس، فقال رجل: ما تقول أعزك الله في رجل أتى حماراً؟
فقال: تُقطع يده ويضرب الحد وينفى من الأرض سنة.
ثم قام إليه آخر، فقال: ما تقول أصلحك الله في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟
قال: بانت منه بصدر الجوزاء والنسر الطائر والنسر الواقع فتحيّرنا في جرأته على الخطأ(3).
إزاحة الحيرة عن الشيعة
على الرغم أنّ امتحان الشيعة كان صعباً لأنهم لم يسبقوا بهكذا امتحان إلا أنّ الإمام الجواد (عليه السلام) استطاع أن يأخذ بيدهم ويقنعهم بإمامته بل ويثبت لهم ركناً عظيماً من أركان الإمامة وهو أن الكبر والصغر ليسا من ملاكات الإمامة.
ولا يخفى أنّ الأئمة الأطهار (عليهم السلام) ممّن سبقوا الإمام الجواد (عليه السلام) تعرضوا إلى هذا الأمر خاصة الإمام الرضا (عليه السلام)، إذ إنه مهد قبل شهادته لذلك الأمر وأكد عليه بشكل واضح.
يقول صفوان بن يحيى: قلت للرضا (عليه السلام): قد كنّا نسألك قبل أن يهب الله لك أبا جعفر (عليه السلام) فكنت تقول: يهب الله لي غلاماً، فقد وهبه الله لك فأقرّ عيوننا فلا أرانا الله يومك، فإن كان كون فإلى من؟
فأشار بيده إلى أبي جعفر (عليه السلام) وهو قائم بين يديه، فقلت: جعلت فداك هذا ابن ثلاث سنين؟!
فقال: وما يضره من ذلك، فقد قام عيسى (عليه السلام) بالحجة وهو ابن ثلاث سنين(4).
وعن معمر بن خلاد، قال: سمعت الرضا (عليه السلام) وذكر شيئاً، فقال: ما حاجتكم إلى ذلك؟ هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيّرته مكاني، وقال: إنّا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة(5).
ولمّا دخل الشاعر الشهير دعبل الخزاعي على الإمام الرضا (عليه السلام) وأنشده تائيته وبلغ قوله:
خروج إمام لا محالة خارج --- يقوم على اسم الله والبركات
يميز فينا كل حق وباطل --- ويجزي على النعماء والنقمات
فبكى الإمام (عليه السلام) بكاءاً شديداً، ثم رفع رأسه الشريف إليه، وقال: يا خزاعي نطق روح القُدس على لسانك بهذين البيتين، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم؟
قلت: لا يامولاي إلا إني سمعت بخروج إمام منكم ويطهر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً، فقال: يا دعبل، الإمام بعدي محمد ابني وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته المطاع في ظهوره لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله له ذلك اليوم حتى يخرج فيملأها عدلا كما ملئت جوراً(6).
دفع الحيرة بالشواهد القرآنية
إلى جانب أحاديث الإمام الرضا (عليه السلام) وتأكيده على أن كبر أو صغر السن لا مدخليه له في الإمامة كان الإمام الرضا ونجله الجواد (عليهما السلام) يستشهدان بشواهد من القرآن الكريم تنص على عدم مدخلية السن في الإمامة.
فقد روى محمد المحمودي، عن أبيه، قال: كنت واقفا على رأس الرضا (عليه السلام) بطوس، فقال له بعض أصحابه: إن حدث حادث فإلى من؟
قال: إلى إبني أبي جعفر (عليه السلام)، قال: فإن استصغر سنه؟
فقال له أبو الحسن (عليه السلام): إنّ الله بعث عيسى بن مريم قائما بشريعة في دون السن التي يقوم فيها أبو جعفر على شريعته(7).
يقول علي بن أسباط: قدمت المدينة وأنا أريد مصر فدخلت على أبي جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) وهو إذ ذاك خماسي، فجعلت أتأمّله لأصفه لأصحابنا بمصر، فنظر إلي وقال: يا علي إنّ الله أخذ في الإمامة كما أخذ في النبوة، فقال سبحانه عن يوسف: (ولمّا بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما)، وقال عن يحيى: (وآتيناه الحكم صبيا)(8).
المناظرة الخالدة
إلى جانب أجوبة الإمام الجواد (عليه السلام) على أسئلة الشيعة ودور ذلك في رفع حيرتهم واطمئنانهم بإمامته فقد تركت مناظراته أثراً عظيماً في اطمينان الشيعة بإمامته وتيقنهم بعدم مدخلية السن في الإمامة خاصة مناظرته مع يحيى بن أكثم الذي دعوه لمناظرة الإمام كي يفحمه ويثبت للمأمون الذي زوجه من ابنته أنه ليس أهلا لهذا المقام.
فقد سأل يحيى بن أكثم الإمام فقال: يا أبا جعفر أصلحك الله- ما تقول في محرم قتل صيدا؟
فقال أبو جعفر (عليه السلام): قتله في حل أو حرم، عالماً أو جاهلاً، عمداً أو خطأ، عبداً أو حراً، صغيراً أو كبيراً، مبدياً أو معيداً، من ذوات الطير أو من غيرها، من صغار الصيد أو من كبارها، مصرا عليها أو نادما، بالليل في وكرها أو بالنهار عيانا، محرما لعمرة أو للحج؟ قال الراوي: فانقطع يحيى بن أكثم انقطاعا -لم يخف على أهل المجلس- وأكثر الناس تعجبا من جوابه(9).
من بركات إمامة الإمام الجواد (عليه السلام)
على الرغم أن إمامة الإمام الجواد (عليه السلام) في هذا السن الصغير كانت سبباً لتحيّر جماعة من الشيعة إلا أنها تركت بركات عظيمة على الطائفة المحقّة ومن ذلك:
1- تيقّن الشيعة وعايشوا على أرض الواقع حقيقة عدم مدخلية السن في الإمامة.
2- ببركة إمامة الإمام الجواد (عليه السلام) تجاوز الشيعة مسألة الحيرة بالنسبة لإمامة الأئمة من بعده ممن وصلتهم الإمامة في الصغر ولم يشككوا في إمامتهم.
3- ببركة إمامة الإمام الجواد (عليه السلام) تهيأت الأرضية عند الشيعة لمسألة إمام الزمان (عليه السلام) وأيقنوا أن الملاك في الإمامة لايمت بصلة بمسألة طول العمر أو الصغر أو الظهور أو الخفاء وإنما الملاك في الإمامة هو ما نص عليه من الشرائط المتعارفة عندهم من قبل المعصومين (عليهم السلام).
اضف تعليق