رغم جميع هذه المحن العظيمة التي عايشها الإمام الصادق إلا كثيراً من التراث الإمامي الضخم الذي بلغنا اليوم هو عبر هذا الإمام العظيم. وكما قال مفيد الطائفة نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته، ما نقل عنه...
مرّت على الإمام الصادق (عليه السلام) أدوار متعدّدة ومختلفة منها الدور الحسّاس الذي عايشه الإمام أيام المحن والشدائد التي فرضها عليه سلاطين بني أمية وبني العباس.
فقد لاقى الإمام (عليه السلام) كثيراً من المحن من قبل حكام الجور الذين عاصروه إلى أن مضى من الدنيا مسموماً شهيداً مظلوماً.
ومع الأسف كثير ممّن تعرضوا لسيرة الإمام (عليه السلام) سلطوا الأضواء على مرحلة انشغال الحكومتين الأموية والعباسية وصراعهما وكيف اغتنم الإمام هذه الفرصة في ترويج المعارف الإلهية والحال أنّ هذه المرحلة كانت قصيرة وكثير من التراث العظيم الذي بلغنا من الإمام الصادق (عليه السلام) هو من تراث المحن القاسية التي عصفت بالإمام أولاً وبالذات وبالعلويين والشيعة ثانياً وبالتبع.
ولكي يتضح عظم معاناة الإمام الصادق (عليه السلام) في عهد المحن نشير إلى بعض الشواهد التأريخية ومن ذلك:
محاولة قتل الإمام (عليه السلام)
تعرّض الإمام الصادق (عليه السلام) للقتل أكثر من مرة وذلك على يد حكام زمانه.
وقد ذكر السيد ابن طاووس (رحمه الله) في (مهج الدعوات) أنّ المنصور دعا الصادق (عليه السلام) سبع مرّات كان بعضها في المدينة والربذة حين حج المنصور، وبعضها يرسل إلى الكوفة وبعضها إلى بغداد، وما كان يرسل عليه مرة إلا ويريد فيها قتله، هذا فوق ما يلاقيه فيها من الهوان وسوء القول (1).
وکان المنصور العباسی شديد العداء للإمام الصادق (عليه السلام) وكان يقول: لقد هلك من أولاد فاطمة مقدار مائة أو يزيدون، وقد بقي سيدهم وإمامهم، فقيل له: من ذلك؟
قال: جعفر بن محمد (2).
ومن الموارد التي تعرض فيها الإمام الصادق (عليه السلام) للقتل ماروي أنّ المنصور قال لما رآه: قتلني الله إن لم أقتلك، فقال له الإمام: إنّ سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب ابتلي فصبر، وإنّ يوسف ظلم فغفر، وأنت على إرث منهم وأحق بمن تأسّى بهم، فقال: إليّ يا أبا عبد الله، فأنت القرابة وذو الرحم الواشجة، السليم الناحية، القليل الغائلة، ثم صافحه بيمينه وعانقه بشماله وأمر له بكسوة وجائزة (3).
الحرص على تنقيص الإمام (عليه السلام)
بالرغم أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) ينتمي إلى بيوت إذن الله تعالى أن ترفع ويعلى فيها ذكره، وما عادى هذه البيوت بيت إلا وخرب إلا أنّ سلاطين زمانه عمدوا إلى هذا الأمر في أكثر من مورد.
فهذا أبو جعفر المنصور يُجبر الإمام (عليه السلام) على لبس ثوب أهل النار.
يقول حذيفة بن منصور: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) بالحيرة فأتاه رسول أبي جعفر الخليفة يدعوه، فدعا بممطر -أي ثوباً يتّقى به المطر- أحد وجهيه أسود والآخر أبيض، فلبسه، ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): أما إنّي ألبسه وأنا أعلم أنّه لباس أهل النار (4).
حرق دار الإمام (عليه السلام)
ومن المحن والمآسي التي مرّت على الإمام (عليه السلام) هي إضرام النار بداره وكان الإمام وأهل بيته فيها.
يقول المفضل بن عمر: وجّه أبو جعفر المنصور إلى واليه على الحرمين الحسن بن زيد أن أحرق على جعفر بن محمد داره، فألقى النار في دار أبي عبد الله (عليه السلام)، فأخذت النار في الباب والدهليز، فخرج أبو عبد الله (عليه السلام) يتخطّى النار ويمشي فيها ويقول: أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل الله (عليه السلام) (5).
شدّة التضييق على الإمام (عليه السلام)
بلغ الأمر من تضييق السلاطين على الإمام الصادق (عليه السلام) أن يضطر إلى مخاطبة أبي العباس السفاح بإمرة المؤمنين والإفطار في شهر رمضان.
يقول الإمام (عليه السلام): دخلت على أبي العباس بالحيرة، فقال: يا أبا عبدالله ما تقول في الصيام اليوم؟
فقلت: ذاك إلى الإمام، إن صمت صمنا، وإن أفطرت أفطرنا.
فقال: يا غلام عليّ بالمائدة، فأكلت معه وأنا أعلم والله إنه يوم من شهر رمضان، فكان إفطاري يوماً وقضاؤه أيسر عليّ من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله (6).
قتل العلويين
ومن المحن العظيمة التي عايشها الإمام الصادق (عليه السلام) هي محنة قتل العلويين خاصة بني الحسن.
يقول المسعودي: جمع المنصور أبناء الحسن، وأمر بجعل القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم، وحملهم في محامل مكشوفة وبغير وطاء، تماما كما فعل يزيد بن معاوية بعيال الحسين. ثم أودعهم مكانا تحت الأرض لا يعرفون فيه الليل من النهار، وأشكلت أوقات الصلاة عليهم، فجزأوا القرآن خمسة أجزاء، فكانوا يصلون على فراغ كل واحد من حزبه، وكانوا يقضون الحاجة الضرورية في مواضعهم، فاشتدت عليهم الرائحة، وتورمت أجسادهم، ولا يزال الورم يصعد من القدم حتى يبلغ الفؤاد، فيموت صاحبه مرضا وعطشا وجوعا (7).
وقال ابن الأثير: دعا المنصور محمد بن عبد الله العثماني، وكان أخا لأبناء الحسن من أمهم، فأمر بشق ثيابه حتى بانت عورته، ثم ضرب مائة وخمسون سوطا، فأصاب سوط منها وجهه فقال: ويحك أكفف عن وجهي، فقال المنصور للجلاد: الرأس الرأس، فضربه على رأسه ثلاثين سوطا، وأصاب إحدى عينيه فسالت على وجهه، ثم قتله (8).
روى أبو الفرج الأصفهاني بأسانيده المتكثرة إلى حسين بن زيد، قال: إني لواقف بين القبر والمنبر إذا رأيت بني حسن يخرج بهم من دار مروان مع أبي الأزهر يراد بهم الربذة، فأرسل إلي جعفر بن محمد، فقال: ما وراك؟
قلت: رأيت بني الحسن يخرج بهم في محامل، فقال: اجلس، فجلست قال: فدعا غلاماً له، ثم دعا ربه كثيرا ثم قال لغلامه: اذهب فإذا حملوا فأت فأخبرني، قال:
فأتاه الرسول، فقال: قد اقبل بهم، فقام جعفر (عليه السلام) فوقف وراء ستر شعر أبيض من ورائه فطلع بعبد الله بن الحسن وإبراهيم بن الحسن وجميع أهلهم، كل واحد منهم معادله مسود، فلما نظر إليهم جعفر بن محمد (عليهما السلام) هملت عيناه، حتى جرت دموعه على لحيته، ثم أقبل علي، فقال: يا أبا عبد الله، والله لا تحفظ لله حرمة بعد هذا، والله ما وفت الأنصار ولا أبناء الأنصار لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بما أعطوه من البيعة على العقبة (9).
عزل الإمام (عليه السلام) عن الشيعة
بلغ الأمر بمضايقة السلطات الجائرة ومحاربتهم للإمام الصادق (عليه السلام) أن آل الأمر بالشيعة أنهم لا يستطيعوا اللقاء به لتحصيل أحكام دينهم.
أن هارون بن خارجة قال كان رجل من أصحابنا طلق امرأته ثلاثا فسأل أصحابنا فقالوا ليس بشيء فقالت امرأته لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله عليه السلام وكان بالحيرة إذ ذاك أيام أبي العباس.
قال: فذهبت إلى الحيرة ولم أقدر على كلامه إذ منع الخليفة الناس من الدخول على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه، فإذا سوادي عليه جبة صوف يبيع خيارا فقلت له: بكم خيارك هذا كله؟
قال: بدرهم، فأعطيته درهماً وقلت له: أعطني جبّتك هذه فأخذتها ولبستها وناديت: من يشتري خياراً ودنوت منه، فإذا غلام من ناحية ينادي: يا صاحب الخيار، فقال (عليه السلام) لي لما دنوت منه: ما أجود ما احتلت، أي شيء حاجتك؟
قلت: إني ابتليت فطلقت أهلي ثلاثاً في دفعة، فسألت أصحابنا فقالوا: ليس بشيء، وإنّ المرأة قالت: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله (عليه السلام)، فقال: ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء(10).
أقول: رغم جميع هذه المحن العظيمة التي عايشها الإمام الصادق (عليه السلام) إلا كثيراً من التراث الإمامي الضخم الذي بلغنا اليوم هو عبر هذا الإمام العظيم صلوات الله عليه.
وكما قال مفيد الطائفة (رحمه الله): نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته، ما نقل عنه (11).
اضف تعليق