إن أي مشروع سياسي، ديني أو حضاري، لن ينجح فقط بجودة تصميمه، بل بمدى إيمان القائمين عليه والتزامهم بترجمته إلى عمل واقعي منظم. فكما في القرآن، الإيمان لا يُعتدّ به إلا إذا اقترن بالعمل الصالح، كذلك المشاريع لا قيمة لها إن لم تتجسد في سلوك من يحملونها...
لا يُقاس نجاح المشاريع السياسية—سواء كانت حضارية، إسلامية، علمانية، أو غيرها—بأصالتها النظرية أو عمقها الفلسفي وحده، بل يتوقف بدرجة حاسمة على إيمان القائمين على تنفيذها بها. فحتى أرقى المشاريع تفشل إن تبناها من لا يؤمنون بها حقاً.
1. الإيمان وحده لا يكفي
في القرآن الكريم، تتكرر الصيغة "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" أكثر من خمسين مرة، مشيرة إلى تلازم لا ينفصم بين الإيمان الحقيقي والعمل المترجم له. فالإيمان، إن لم يُترجم إلى سلوك وممارسة، يظل ناقصاً بل قد يصبح عائقاً إذا استُخدم للتضليل أو الكسب الشخصي.
2. من المشروع إلى الممارسة
الدولة الحضارية الحديثة، كمشروع، لا تعني فقط مؤسسات ونظم، بل تتطلب روحاً حية مؤمنة بقيم التقدم والحرية والعقلانية. من يتبناها دون قناعة حقيقية بأسسها—مثل الديمقراطية، المواطنة، المساواة، الشفافية—سيحولها إلى غلاف أجوف.
3. المثال الإسلامي
لم تفشل بعض تجارب "الدولة الإسلامية" الحديثة بسبب الإسلام كمصدر قيمي، بل لأن من حملوا لواءه لم يؤمنوا فعلياً بمستلزمات العصر أو لم يتصالحوا مع مفاهيم الدولة الحديثة. كانوا مؤمنين بالشعار، لا بروحه.
4. نظرية دون حامل
التاريخ يزخر بأمثلة لمشاريع رائدة انتهت إلى الفشل لأن حامليها لم يكونوا على قدر التحدي. الشيوعية في بعض الدول تحولت من حلم بالمساواة إلى كابوس سلطوي لأن القائمين لم يجسدوا قيمها، بل نكصوا عنها.
وهذا ينطبق على الديمقراطية حيث لا يمكن تصور نجاح المشروع الديمقراطي اذا قام على تنفيذه اشخاص غير ديمقراطيين.
5. إيمان حيّ متجدد
الإيمان الذي نقصده هنا ليس مجرد التصديق أو التبني اللفظي، بل الالتزام العملي، الشغف الصادق، والاستعداد لتحمل الكلفة الأخلاقية والإدارية. وهذا يتطابق مع الروح القرآنية التي لا تكتفي بالإيمان القلبي، بل تشترط "العمل الصالح" برهاناً عليه.
٦. التجربة العراقية
ينص الدستور العراقي في مادته الأولى على أن "جمهورية العراق دولةٌ مستقلةٌ ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوريٌ نيابيٌ (برلماني) ديمقراطي"، وهو نص يضع الديمقراطية في قلب الهوية السياسية للدولة. لكن الواقع السياسي بعد 2003 كشف عن خلل بنيوي عميق: غياب الديمقراطيين الحقيقيين داخل الطبقة الحاكمة.
فقد تأسس النظام الجديد شكليًا على أسس ديمقراطية، لكن القوى السياسية التي تولّت السلطة لم تؤمن فعليًا بمبادئ الديمقراطية مثل تداول السلطة، فصل السلطات، حرية التعبير، والمواطنة المتساوية. وبدلاً من ذلك، أعادت إنتاج عقلية ما قبل الدولة، من زعامات ما دون وطنية، وتغليب الولاء الحزبي أو الطائفي على المصلحة العامة.
هذه المفارقة تُختصر في عبارة متداولة:"Democracy without democrats"، وهي تصف أنظمة تتبنى الشكل الديمقراطي لكنها تدار من قبل نخب غير مؤمنة به، مما يؤدي إلى تعطيل جوهر الديمقراطية وتحويلها إلى غطاء للفساد أو الاستبداد المقنّع.
بالتالي، لم يكن فشل التجربة الديمقراطية في العراق فشلًا لفكرة الديمقراطية نفسها، بل لفقدان رجال الدولة المؤمنين بها والملتزمين بتطبيقها فعليًا.
خاتمة:
إن أي مشروع سياسي، ديني أو حضاري، لن ينجح فقط بجودة تصميمه، بل بمدى إيمان القائمين عليه والتزامهم بترجمته إلى عمل واقعي منظم. فكما في القرآن، الإيمان لا يُعتدّ به إلا إذا اقترن بالعمل الصالح، كذلك المشاريع لا قيمة لها إن لم تتجسد في سلوك من يحملونها.
اضف تعليق