يدعونا لله –تعالى- في عديد الآيات القرآنية الكريمة تقديم العلم والمعرفة على العبادة، وعلى هذه القاعدة جرت التأكيدات من رسول الله، ومن الأئمة المعصومين من بعده، بضرورة التعلّم والتفكّر قبل ممارسة العبادة لتكون العبادة عن فهم ومعرفة، ومن ثمّ تكون منطلقة من إيمان عميق وحقيقي بالله –تعالى-...

{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} سورة الحج، الآية:26

من حق كل مسلم إظهار سروره وابتهاجه وهو يستعد لأداء مناسك الحج؛ هذه الفريضة العبادية العظيمة، كما من حق كل مسلم إظهار وجده وشوقه لأن يحظى بمثل هذه الرحلة الروحانية في السنوات القادمة.

الحج فريضة عبادية من فروع الدين العشر، يكفي أن يؤديها الانسان مرة واحدة في حياته، بينما الصلاة والصيام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يمارسها يومياً في ظروف زمانية ومكانية مختلفة، كذا الحال بالنسبة لفريضة الجهاد، والخمس والزكاة لها ظروفها وشروطها الخاصة.

شوق الناس لرحلة الحج ينبع من شعورهم بأنهم يكونوا أقرب الى الله –تعالى-، وهي لحظات حاسمة واستثنائية أن يستشعر الانسان –ربما- لأول مرة في حياته أنه أقرب الى ربه ليشكوه حاله وما ألمّ به من فتن وأزمات في حياته، فهو يطلب العون والمدد للخلاص، ومن ثم؛ النجاح والصلاح، ولكن!

أقرب بأي شيء الى ربه؟

هل من خلال عوامل مادية يستشعرها بحواسه مثل بوجود الكعبة المشرفة بمنظرها المهيب أمامه، مع سائر المقامات والمعالم المقدسة، مثل مقام نبي الله ابراهيم، وآثار سعي السيد هاجر، عليها السلام، بين الصفا والمروة؟ أم بعوامل أخرى يبحث عنها وهو يردد التلبية الصادحة؛ "لبَيكَ اللّهم لبَيكَ، لبَيكَ لا شَريكَ لكَ لبَيكَ، إنّ الحمدَ والنِعمةَ لَكَ والمُلك لا شَريكَ لَك لبَيك"؟

العبادة بمعرفة وعلم

يدعونا لله –تعالى- في عديد الآيات القرآنية الكريمة تقديم العلم والمعرفة على العبادة، وعلى هذه القاعدة جرت التأكيدات من رسول الله، ومن الأئمة المعصومين من بعده، بضرورة التعلّم والتفكّر قبل ممارسة العبادة لتكون العبادة عن فهم ومعرفة، ومن ثمّ تكون منطلقة من إيمان عميق وحقيقي بالله –تعالى-، ولعلّ أبرز مثال على هذا؛ الحوار الذي جرى بين الله –تعالى- ونبيه الخليل، ابراهيم، عليه السلام، عندما طلب أن يرى بعينيه كيفية إحياء الموتى، فجاء الجواب في القصة المعروفة في القرآن الكريم، وإلا فان نبي الله ابراهيم كان مؤمناً وعابداً مخلصاً لله –تعالى- بيد أنه اراد من المعرفة طمأنة قلبه {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنْ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، (سورة البقرة، الآية: 260) وايضاً في سياق المخاطبات بين ابراهيم وربه –تعالى- في سورة البقرة بعد بنائه بيت الله الحرام: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

ومن تجارب الماضين في عمق التاريخ، نقرأ من تعاليم نبينا الأكرم، صلى الله عليه وآله، وأهل بيته، في أهمية العلم والمعرفة قبل العبادة، والاحاديث مستفيضة في هذا المجال، منها ما جاء عن رسول الله: "ركعتان يصليهما العالم أفضل من ألف ركعة يصليها العابد"، وعن أمير المؤمنين: "فكر ساعة قصيرة خير من عبادة طويلة"، وحتى في فضل العالم على الشهيد الذي يضحي بنفسه في سبيل الله، جاء عن الامام الصادق عن آبائه، عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، انه قال: "اذا كان يوم القيامة وزن مداد العلماء بدماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على مداد الشهداء".

كل هذه التأكيدات والتوصيات تنبهنا الى العواقب الكارثية للجهل بمسائل العقيدة والدين عندما نكون يوماً ما على في مفترق طريقين؛ بين السكوت على الطاغية الظالم، او الانسياق معه، وبين استسهال الظلم والانحراف في المجتمع، او معارضته، لأن انعكاسات الموقف والاختيار هذا تكون مباشرة على سلوكنا وطريقة حياتنا، وايضاً؛ مصيرنا في الحياة، ومن ثمّ لما بعد الحياة (الآخرة)، فلن تنفعنا صلاتنا ولا صيامنا، و حجّنا ايضاً عندما تكون دون محتوى ايماني وفهم للغاية النهائية، فالصلاة –مثلاً- التي نصليها يومياً بشكل روتيني –تقريباً- يفترض أنها {تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}، بينما نلاحظ الفحشاء والمنكر في هذا الشارع او ذاك، وفي هذه المدينة او تلك، أليس كذلك؟!

الامام الحسين، عليه السلام، ونحن هذه الايام نستقبل مناسبة عظيمة تتعلق بهذا الإمام العظيم، وهي زيارته يوم عرفة في التاسع من ذي الحجة، يقدم لنا صوراً رائعة ومتكاملة للعبادة عن علم ومعرفة.

يروى أنه كان قريباً من عبد الله بن عباس وهو يحدث الناس في التوحيد ذات يوم، فقال له رجلٌ يدعى؛ نافع ابن الازرق: "يا بن عباس تفتي في النملة والقملة، صف لنا إلهك الذي تبعده"! فحين عجز ابن عباس عن الاجابة، دعاه الإمام الحسين اليه ليعطيه جواب سؤاله: فقال له، عليه السلام: "يا نافع إن من وضع دينه على القياس لم يزل الدهر في الارتماس، مائلاَ عن المنهاج، ظاعنا في الاعوجاج، ضالاَ عن السبيل، قائلاَ غير الجميل، يا بن الأزرق! أصف إلهي بما وصف به نفسه، و أعرفه بما عرّف به نفسه، لا يُدرك بالحواس، ولا يُقاس بالناس، فهو غريب غير ملتصق، وبعيد غير متقص، يُوحّد ولا يُبعّض، معروفٌ بالآيات، موصوفٌ بالعلامات، لا إله إلا هو الكبير المتعال".

ولعل أقصر الطرق لمعرفة الله –تعالى-؛ دعاء الامام الحسين، عليه السلام، يوم عرفة، فهو مشحونٌ بالتنزيه والتعظيم والتسليم؛ نقرأ في بداية الدعاء: "الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع ولا كصُنعه صُنع صانع وهو الجواد الواسع"، وفي مقطع آخر من الدعاء يقول عليه السلام: "اللهم اجعلني أخشاك كأنّي أراك"، فأي منزلة معرفية هذه؟! ومن يقرأ هذا الدعاء، وغيره من النصوص الواردة عن الأئمة المعصومين في أمر التوحيد، يكتشف أن الإقرار بالعبودية لله –تعالى- والمداومة على الاستغفار، بحيث تكون جزءاً من الحياة اليومية، يُعد أحد مفاتيح الوصول الى مراتب العرفان الحقيقي.

التذكّر الدائم بالعون الالهي

في مقابل التوحيد يكون الشرك طريقاً ثانياً في الحياة، متمثلاً اليوم بأصنام فكرية وبشرية ومادية، فقد اقتنع الانسان في نهاية المطاف أن الاشكال الحجرية المنصوبة في مكة وسائر البلاد بالعالم لن تضر ولا تنفع، فضلاً عن عجزها عن النطق والتأثير في حياة الانسان، كما أكد هذه الحقيقة؛ القرآن الكريم، بيد أن هذا الانسان توقف منذ اربعة عشر قرناً من الزمن، حائراً أمام قوة المال وقوة السلطان، وكيف يمكن تجاوزهما والايمان بشكل مطلق بأن الله –تعالى- هو الحاكم المطلق وهو المهيمن والرازق وبيده القضاء والقدر، وهو عل كل شيء قدير؟

يكفي أن نسأل أي شخص يروم تأدية مناسك الحج؛ من –أو ما- الذي يوصله الى المدينة المنورة ومكة المكرمة؟ ربما يكون جواب البعض: جواز السفر، أو الجهات المعنية بتنظيم الحج؟ أو "الواسطة" من متنفذين في السلطة، أو المال، بلى؛ كل هذه وسائل واسباب تعد من سنن الله –تعالى- في الحياة، ولكن هذه الوسائل يفترض ان تكون مصدرها الله –تعالى- لا غيره، وإلا نقع في تناقض خطير، فنحن حولنا الوسائل مصادر عون متعددة لنا، و فعلنا كل شيء للحصول على مقعد أو حصّة بين عشرات الآلاف من الحصص لأداء فريضة الحج، ثم نريد التوجه الى الكعبة المشرفة كهدف واحد، ونقول: أننا نعبد الله الواحد الأحد!

من هذا المطب يحذرنا ربنا –تعالى- من مغبة الانزلاق في مهاوي الشرك على حين غفلة، وجاءت الاشارة في القرآن الكريم عندما دعا الله –تعالى- نبيه ابراهيم بأن يتخذ الكعبة مكاناً للعبادة بشرط {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِي}، وقد أجمع المفسرون على أن التطهير هنا ليس فقط من النجاسة المادية العينية، بل ومن النجاسة المعنوية، وفي مقدمتها؛ الشرك بشكله المعنوي، من خلال تقديم الاستعانة بعوامل مادية، ليس في أمر أداء فريضة الحج فقط، وإنما في جميع نواحي الحياة، لتكون هذه الفريضة فرصة لإعطاء مصداقية لما نقوله يومياً في صلاتنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، بمعنى التعهّد بأننا ليس فقط نعبد الله، وإنما نتسعين به ايضاً في نفس الوقت، ولا نستعين بغيره، وإن كانت ثمة استعانة، فهي على سبيل الوسيلة لا غير.


اضف تعليق