يمكن وصف المرحلة التي تلتقي فيها أفكار التكبر والتعالي والتي تؤصل للعنصرية بأنها من أشد حالات النكوص الحضاري؛ لأن التقاء هذه الأفكار وانسجامها من شأنه أن ينسف قيم التنوع بين الثقافات والحضارات المتنوعة، خصوصاً في المجتمعات المتعددة دينياً وعرقياً، وإجهاض لكل حالة تفاعل ايجابي بشأن الحوار الخلّاق بين هذه الثقافات، وذلك بفعل التغذية الفكرية القائمة على إنكار الآخر والتعالي عليه وعلى مكوناته الحضارية والتاريخية، وصولاً لمرحلة إقصاء هويته والعمل على طمسها، وهنا أشد حالات الاستلاب الثقافي(cultural alienation) وهو الأساس الذي تُبنى عليه المراحل اللاحقة لعملية الصراع بين الهويات عبر ترويج تعالي هذا الطرف المكوناتي على ذاك، ومثل هذا الترويج ساد في العراق مثلاً خلال العقود التي سبقت سقوط نظام (صدام حسين) خصوصاً في مرحلة الحرب العراقية الإيرانية وتداعياتها المذهبية والسياسية، حيث سادت في المجتمع وفعالياته مفردة (الشروكية) والتي وُصِفَ بها أبناء الجنوب والفرات الأوسط في محاولة لتمزيق النسيج المجتمعي وإحداث حالة استلاب ثقافي مع رهان على عديمي الثقة بأنفسهم وبأصولهم فيسقطون في منزلقات تؤدي بهم إلى الانسلاب تدريجياً.
وحالة الانسلاب التي يسقط فيها الفرد خاضعاً لاستلابه الثقافي والفكري تمر عبر طرق عدة، تتعبد بأدوات الإيديلوجيا والمشاريع الاستبدادية، وقد تكون تحت رعاية واشراف السلطات المستبدة التي تريد إدامة تسلطها بتجفيف منابع مياه الوعي، وإعطاء الضوء الأخضر لمكونات الاستلاب الثقافي والفكري في العمل على سلب الأفراد خصوصياتهم، والاستلاب يبدأ من القاعدة (المجتمع) صعوداً إلى القمة (السلطة) تتشابك فيه المكونات عرقياً ومذهبياً، ويمكن أن نعود إلى حالتنا العراقية للاستشهاد بها في قضية الاستلاب ومراحل صعوده من القاعدة المجتمعية إلى القمة السلطوية ، وذلك من خلال الأزمات المتلاحقة بين بغداد بصفتها عاصمة العراق وأربيل بصفتها عاصمة لإقليم كردستان التابع (رسمياً) لجمهورية العراق الاتحادية، فنشاهد كثير من صُنّاع الرأي العام وقعوا في منزلق الاستلاب الثقافي وراحوا يروجون لأخضر الكرد ويابسهم، وهكذا بالنسبة لسياسيين في السلطة وخارجها فعلوا ذات الفعل ، فبمجرد الخلاف على مصالح حزبية وسياسية خضعوا بالكامل لموجات الاستلاب وإن كانت مؤطرة قومياً.
الاستلاب والهيمنة الاعلامية
وقد ينتج عن ظاهرة الاستلاب الثقافي ظاهرة التقليد والتابعية الثقافية التي تظهر بعض الحالات غير المنسجمة مع التقاليد المجتمعية على أنها مظهر من مظاهر التمدن والتحضرمستغلة هيمنة الميديا ومكوناتها الاتصالية المباشرة، من خلال برامج ومقاطع فيديو لاقيمة معرفية لها ويتم الانبهار بقشريتها وبعناوينها البراقة كالقرية الصغيرة والتداخل الحضاري. ومثل هذه الظاهرة الخطيرة تنبىء بتفكك مجتمعي يبدأ من الأسرة كقاعدة وصولاً لقمة المجتمع وهنا تمظهر آخر من تمظهرات الاستلاب بين القاعدة والقمة.
وعلى ما يبدو فإن نسقاً فوضوياً يسعى لخلط الأوراق من خلال إعطاء الفوضى الفكرية شرعية اعلامية تضبب الواقع أكثر، ويعمل على ضرب منظومة القيم الاخلاقية ببرامج تدعي أنها تحاول الاقتراب من مشاكل الانسان بينما هي تزيد منها بقصدية الهيمنة الفكرية عليه بهدف استلابه وتوجيهها باتجاه مشاريع معينة تسعى لكساد فكري، وإبعاد الانسان عن منابع المعرفة الحقيقية متخذة من قضية المرأة وتحررها ــ على مستوى الجسد ــ قناعاً تتخفى خلفه تلك المشاريع فضلاً عن أقنعة أخرى كالمثلية الجنسية التي صارت لها قوانين تنظمها في بعض البلدان!
إن مسألة التأثير على الأفراد من خلال الهيمنة الاعلامية ظهرت في أزمنة مبكرة من القرن الماضي، فتعدد وسائل الاعلام تتباين في مستوى التأثير بين هذه الوسيلة وتلك، فضلاً عن الظروف المحيطة، وتراجع دور وسائل الاتصال التقليدية كالصحف والمجلات والاذاعة والتلفزيون، أمام الوسائل القادمة بقوة الالكترون وثورة التكنلوجيا العاملة على انتاج ذهنيات متذبذبة قابلة للاستلاب بكل أشكاله وتجلياته.
الظواهر الأحادية وتعزيز الاستلاب
إن الهيمنة الأحادية لفكر معين يقوم على نزعات عنصرية؛ يساهم بعملية طمس هويات الأقليات وتغليب الهويات القومية العنصرية، أو الدينية بشكلها المتطرف، وبذلك تتعزز حالات الاستلاب الثقافي والفكري عند الأفراد من سواء كانوا من أتباع الأكثرية أو الأقلية؛ لغياب الانسجام والحوار الحضاري وتصدع قيم التعايش من خلال الانغلاق على الذات التي قد تخضع لمستفزات الانفتاح الفوضوي، وهنا تبدأ أولى عمليات استلاب الأفراد في مزاوجة غير منطقية بين التخلف المعرفي الناتج عن الأحادية من جهة، وآليات الانفتاح الفوضوي.
ومثل هذه الإشكاليات؛ نجد لها حضوراً في مجتمعاتنا الشرقية، حيث يفرض الفكر نفسه عقيدة تحتكر الحقيقة، ويمهد لسلطة مطلقة لا تلغي الآخر فقط ، بل تسعى لتحطيمه غير مؤمنة بوجوده أو بحقه في الحياة، وتبدو مثل هذه الظواهر الأحادية متجذرة ونعززها كقيم توارثناها ولم نفكر جدياً بطرحها على طاولة النقد، فالأفكار الأحادية تنفتح، لكن انفتاحها مشروط بكل مامن شأنه يؤيد استمرارها وحدها دون غيرها وهذا أشد وأخطر أنواع الانفتاح؛ لأنه انفتاح مضبب، وأيضاً تنطبق عليه ثنائية القاعدة والقمة، غير أن الفرق هو أن الأحادية تبدأ من القمة ممثلة بأحزاب السلطة نزولاً إلى الفعاليات الثقافية والاعلامية.
نعم، قد تكون هناك بعض المشاكل المتعلقة بفهم دلالات الاستلاب على صعيد اللغة والمعنى؛ لكن الأهم من ذلك هو رصد تأثيراته وتمظهراته على أجيالنا التي قد تبدو مُهيّأة لهذا النوع من الاستلاب مالم نتدارك ونستنفر الجهود المعرفية والفكرية لإنقاذ مايمكن إنقاذه، عبر التحرر من كل أشكال التبعية الثقافية والسلوكية للغرب، تلك التبعية التي إن تنامت ستجعلنا غرباء في بيوتنا وبين أولادنا.
اضف تعليق