الإمام الحسين عليه السلام بنفسه لم يكن حسينا إن لم يفعل ما فعل، ولقد خُيِّر إما أن يكون حسينا وإما لا يكون حسينا، فلقد ذهبت كل مظاهر الإغراء والإرهاب، والتطميع والتهديد ولم يبق منها شيء، إلا أن الحسين عليه السلام بقي لأنه لم يرض أن يعيش ذلك الاغتراب...

ما هو مفهوم الاغتراب الثقافي؟ وكيف يؤثر على الإنسان والمجتمع؟

وما هي القيم التي أطلقتها النهضة الحسينية في مواجهة الضياع الثقافي، وكيف يمكن استثمارها في تحقيق التحولات الإيجابية؟

لو أردنا أن نختزل مفهوم "الاغتراب الثقافي" فيمكن القول؛ هو كون الإنسان يضطر ليتبنى فكرا أو عقيدة أو ثقافة ليس مقتنعا بها قلبيا بل يأخذها مصلحة أو خوفا، لسبب ما: ككسب معاشه أو للحصول على مكانة مادية أو وجاهة معنوية، أو خوفا من ضرر قد يصيبه في حالة معرفة الآخرين بأفكاره فيظهر خلاف ما يعتقده.. 

كل ذلك من أبرز مظاهر الاغتراب الثقافي، وأول ضحية لهذا الاغتراب هو الإنسان المغترب نفسه حيث يعيش في حالة من الضياع ولا يدري لماذا عليه أن يدفع الضريبة، فالنفس الإنسانية مستعدة أن تضحي بكل غال ونفيس من أجل أن تحافظ على مبادئها التي هي أهم لديه من الخبز والمكسب المادي، فصار المغترب يعيش العكس؛ يضحي بفكره وعقيدته لكي يحصل على مصلحة آنية ومهما كانت هذه المصلحة ثمينة حسب مقاييس المصلحة، فإن تأنيب الضمير لن يتركه وإنما سيؤدي به إلى أن يخسر حتى تلك المصلحة نفسها، ذلك لأن طبيعة الإنسان وكيانه؛ معنوية قبل أن تكون مادية، وبالتالي فإن الطبيعة لا ترحم من يتحداها ويحاربها..

أما تأثيره على المجتمع؛ فإن هذا النوع من الاغتراب سينتج ظاهرة "الرياء الاجتماعي"؛ ذلك لأن المجتمع سيعيش حالة ليس مقتنع بها وإنما يقوم من أجل إرضاء الطرف الآخر أو خوفا من المخاطر التي قد يتوهم بها في حالة ممارسة قناعاته.

وفي هذا المضمار يمكن ذكر مثال من تجربة صاحب موسوعة دائرة المعارف الحسينية حيث يذكر أنه كان يبحث عن كل الشعراء الذين أنشدوا في الإمام الحسين عليه السلام ليجمع أشعارهم مع سيرتهم الذاتية في موسوعته، فعثر على شعر حسيني من أحد الشعراء، وحينما اتصل به وطلب منه أن يرسل سيرته الذاتية قال له الشاعر المذكور: أنه كان ينشد الشعر الحسيني في بداية شبابه وهو الآن لا يريد أن يعرف عنه أحد تلك السيرة، لا لشيء وإنما لأنه انتمى إلى جهة لا تعجبها هذه الأفكار، أي إن الشاعر لم يغيّر قناعاته وإنما مصالحه فرضت عليه أن يعيش هذا الاغتراب والرياء الإجتماعي!

ولا يقال أن هذا الشخص يعيش في راحة نفسية وإنما يعيش ضياعا قد يؤدي به يوما إلى أن ينشد ضالته ويعود إلى أصله، وإما يقع في متاهات أصعب، فالذي يريد إرضاء الآخرين على حساب نفسه لن يصل إلى مبتغاه، ذلك لأن رضا الناس غاية لا تدرك..

وفيما يرتبط بالقيم التي أطلقتها النهضة الحسينية في مواجهة الضياع الثقافي؛ فهي قد تجلت في كل لحظة من لحظات هذه النهضة، وأبرزها مثال الحر الرياحي؛ ذلك الثائر الذي ثار على كل الأعراف الدخيلة والموروثات الغريبة عن قناعته فعاد إلى أصله، وصدق من قال: إن كان لكل إنسان نصيب من إسمه فللحر كل النصيب.

كما أن الإمام الحسين عليه السلام بنفسه لم يكن حسينا إن لم يفعل ما فعل، ولقد خُيِّر إما أن يكون حسينا وإما لا يكون حسينا، فلقد ذهبت كل مظاهر الإغراء والإرهاب، والتطميع والتهديد ولم يبق منها شيء، إلا أن الحسين عليه السلام بقي لأنه لم يرض أن يعيش ذلك الاغتراب إن صح التعبير، وكان خروجه هو خروج شخصي وذاتي قبل أن يكون خروجا سياسيا أو اجتماعيا وذلك بناء على كلمته الخالدة: "ومثلي لا يبايع مثله..".

أما عن كيفية استثمار قيم النهضة الحسينية في تحقيق التحولات الإيجابية؛ فإنه في أحلك الظروف وأشدها مرارة نتيجة الاغتراب الثقافي؛ لو جعل الفرد أو المجتمع تلك النهضة نصب عينيه فإنه سيجد ضالته التي تخرجه من الضياع، فعادة ما ينظر إلى عاشوراء على أنها ثورة، أو تغيير أو إصلاح، أو مطالبة بحقوق مهدورة و مضيعة، أو إنقاذا للدين أو العقيدة، أو سائر المفاهيم المتداولة، وكل يدعي الوصل بليلى، إلا أن ما هو مغفول عنه ومضمور، هو ذلك الجانب العلمي أو النفسي الذي يعالج الأزمة الثقافية التي تصيب الفرد أو المجتمع نتيجة الرواسب والتراكمات أو الإغراء والترهيب.

 ولا ننسى ذلك النموذج الذي طالما كان يذكره الإمام الشيرازي خلال محاضراته وكتبه: حين المد الشيوعي الذي غزا المجتمعات الدينية والمحافظة لعقود من الزمن، حينما كان يحين موسم عاشوراء كانت تتلاشى تلك الجهود وتتبخر الطاقات والأموال التي صرفت من أجل غسيل الأدمغة، وتغيب تلك الأفكار والإيديولوجيات الدخيلة، فيعود المجتمع إلى أصله تاركا كل ما تلقاه طوال عام كامل، مما أدى إلى استغراب الزعيم الشيوعي ستالين، وحينما عرف السبب قال: "اقتلوا كربلاء..".

* مداخلة مقدمة الى الجلسة الحوارية التي عقدها مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث تحت عنوان: (قِيَمُ النَّهضةِ الحُسَينيةِ في زمنِ الاغترابِ الثقافيِّ)

اضف تعليق