ما ينبغي أن يثير التخوف والحذر من موجات الحداثة؛ هي القدوات التي يصنعها الإعلام والعالم الرقمي والذي باستطاعته أن يغيّر المفاهيم؛ فيقلب الحقائق، ويجعل الحق باطلا والباطل حقا، ويحوّل المجرم إلى بطل! واللهو واللعب إلى ثقافة. ولكي لا تفقد البوصلة في مواجهة هذه القدوات المزيفة فلابد من قدوات حقيقية...
ماهي المشكلات التي تؤثر على الهوية الدينية في عصر التكنولوجيا الرقمية، ومسارات تفكيك القيم والانتماءات في افكار ما بعد الحداثة؟
وما هي الحلول المقترحة التي تعيد تشكيل الوعي الديني، وتحصين المجتمع من تموجات ما بعد الحداثة؟
لا فرق بين المشكلات المعاصرة التي تؤثر على الهوية الدينية وبين مثيلاتها من المشاكل في العصور السابقة، فالمحتوى هو ذاته، وإنما تغيرت الآليات والأسماء والأشكال، حالها كحال سائر الوسائل.
فالنصوص الدينية عبَّرت عن "التدين السائل" بمصطلح "المؤلفة قلوبهم"، أما "الانفصام الفطري" و"الاغتراب الديني" فقد وردت على شكل مفاهيم "الارتداد" و"الافتتان" ومآل جميعها واحد.
وكذلك فيما يرتبط بالتطور التقني والرقمي؛ فلا فرق بينه وبين الوسائل البدائية من أعواد المنبر وأسواق عكاظ حيث النتيجة واحدة.
فـ"الحداثة" لا تستطيع تحديث القيم والأخلاق والمبادئ، كما أنها لا تستطيع أيضا أن تجدد المغريات والتموجات.
كما أن مظاهر التسييس والتلاعب والتطويع والتمييع الذي يستهدف الدين والمفاهيم الدينية؛ هي الأخرى لم تكن جديدة، وإن نقبنا التاريخ فلربما نجد ما كان أشد وأعظم وأكثر تنوعا مما هو عليه الآن..
من هنا وبناء على هذا الأساس؛ فإن الذات الفردية إن أرادت فإنها تحصن نفسها بنفسها مستعينة بربها، ولا تستطيع أي موجة أو عاصفة أو مد أو قوة أن تخترق مبادئها، وقد أشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذه القاعدة حينما قال: "لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، ولو صببت الدنيا بجمّاتها على المنافق على أن يحبني ما أحبني..". فلا المغريات المادية ولا الأجواء الغالبة تستطيع أن تزحزح قناعات الفرد وتمسكه بمبادئه، وحسب تعبير أحد الشخصيات الاجتماعية حينما كان يرسل أولاده إلى مختلف البقاع والبلدان كان يواجه بانتقاد ومعارضة من أصحابه خوفا على مصير الأولاد وتأثرهم بالأجواء المغرية، فكان يرد عليهم أن شدة وثوقه جعلته في يقين تام من أنهم لن يتأثروا ولن يتلوثوا بأي محيط مهما كان حيث حصنهم من البداية بما هو مطلوب فأدى إلى رفع الخوف والقلق.
إلا أن الجديد في الأمر وهو ما ينبغي أن يثير التخوف والحذر من موجات الحداثة؛ هي القدوات التي يصنعها الإعلام والعالم الرقمي والذي باستطاعته أن يغيّر المفاهيم؛ فيقلب الحقائق، ويجعل الحق باطلا والباطل حقا، ويحوّل المجرم إلى بطل! واللهو واللعب إلى ثقافة.
ولكي لا تفقد البوصلة في مواجهة هذه القدوات المزيفة فلابد من قدوات حقيقية تمثل الدين والمبادئ الأخلاقية. وحين العودة إلى الدين فإننا لا نجد اي فراغ أو شاغر في مجال القدوة والاحتذاء حيث ترك لنا الأثر والتراث ما يفي الغرض بسخاء وكرم.
ومن هنا نعرف دور البيئة الأولى وهي الأسرة وهي القادرة على التذكير بالبوصلة والميزان، فالأسرة رغم صغرها فإنها قادرة على ترك تأثيرها على المجتمعات مهما كانت كبيرة ومترامية الأطراف، ذلك لأنها النواة والبذرة الأولى التي تكوِّن شخصية الفرد وتصنع منه كيانه الثقافي الذي يبقى ويترسخ مدى حياته رغم كل العواصف والزلازل والفيضانات (الثقافية) و(الفنية) إن صح التعبير!.



اضف تعليق