في المستقبل، قد لا تشبه الرياضيات سلسلة جبال نائية، بل مصنعًا تتولى فيه الروبوتات تجميع السيارات، يتجول عددٌ قليل من الفنيين البشر داخل المصنع، للتأكد من أن الروبوتات تعمل بكفاءة، في حين أن الأخيرة هي التي تقوم بجميع عمليات رفع المعدات الثقيلة، وفي الوقت ذاته يزداد البشر النافذون الذين يمتلكون المصانع -وربما مستقبل الرياضيات- ثراءً وقوة...
بقلم جون هورجان
تبهرني الرياضيات البحتة، ويرجع ذلك تحديدًا إلى صعوبتها وإبهامها، أتصورها عالمًا بعيدًا، باردًا، محفوفًا بالمخاطر، مثل سلسلة جبال سينتينيل الواقعة في القارة القطبية الجنوبية، يبدو لي هؤلاء القادرون على سبر أغوار الرياضيات وكأنهم أشخاص خارقون.
ذات مرّة سألت أندريه فاي -وهو أحد هؤلاء الخارقين الذين نجحوا في الوصول إلى قمة جبل الرياضيات- عما إذا كان منزعجًا من أن إنجازاته في نظرية الأعداد والهندسة الجبرية لا يعلم عنها سوى عددٍ قليلٍ من الناس، بل إن مَن يفهمها عددٌ أقل أيضًا، وبعد أن بدا فاي متحيرًا من السؤال، أجابني بالنفي، مضيفًا: "هذا ما يجعل الأمر أكثر إثارة"، يذكر فاي في سيرته الذاتية أن عمله في مجال الرياضيات ينقله إلى "حالة من الانتشاء الجزْل، تتوالى فيها الأفكار على نحوٍ يشبه المعجزة"، وربما لأنني أنظر إلى علماء الرياضيات نظرةً مثالية، أجدني منزعجًا من فكرة أن الآلات قد تحل محلهم، وهو الاحتمال الذي أثرته في مقال بعنوان "موت البرهان" "The Death of Proof"، نشرته مجلة «ساينتفك أمريكان» Scientific American في أكتوبر 1993، أوردتُ فيه أن اختصاصيي الرياضيات قد أصبحوا أكثر اعتمادًا على الحواسيب نتيجة تزايُد تعقيد علم الرياضيات، وقد أثَرت في هذا المقال التساؤل التالي: "هل سيكون علماء الرياضيات العظماء في القرن القادم مصنوعين من السيليكون؟".
لا يزال اختصاصيو الرياضيات ينتقدونني بسبب ذلك المقال، حتى مع استمرار الظواهر التي أشرت إليها فيه؛ فقد أعرب أنتوني بورج- اختصاصي الرياضيات بجامعة كامبريدج البريطانية- عن قلقه إزاء تعرُّض علم الرياضيات "لأزمة تكرار" مثل تلك التي نشهدها في مجال البحث العلمي، ويشير بورج في دورية «ذا ماثيماتيكال إنتيليجنسر» The Mathematical Intelligencer إلى أن اختصاصيي الرياضيات يقبلون أحيانًا برهانًا ما لأنهم يثقون بالمنهجية المستخدمة في البرهان وفي واضعه، وليس لأنهم تحققوا من صحته خطوةً بخطوة.
كذلك، يقول بورج إنه نظرًا إلى "زيادة صعوبة التحقق من صحة الطروح الرياضية"، فقد لا يمكننا الاكتفاء بالمراجعات التقليدية التي يُجريها الأقران؛ لأن بعض علماء الرياضيات البارزين نشروا "براهين" على درجةٍ عاليةٍ من الابتكار والتفصيل، يعجز حتى المتخصصون في المجالات المشابهة عن التحقق من صحتها، على سبيل المثال، هناك البرهان الذي نشره شينيتشي موتشيزوكي في عام 2012، الذي يقول فيه إنه أثبت حدسية ABC، وهي مسألةٌ بارزةٌ في نظرية الأعداد؛ فقد نظّم علماء الرياضيات العديد من المؤتمرات على مدار العقد الماضي لتحديد ما إذا كان برهان موتشيزوكي صحيحًا أم لا، ولكن دون جدوى، وحتى الآن، لا يزال البعض يقبله والبعض الآخر يرفضه، هنا يشير بورج إلى أن حوسبة "محققات البراهين" سوف تساعد في التأكد من صحتها.
فقد ابتكر الباحثون في شركة «مايكروسوفت» Microsoft "أداة تفاعلية لإثبات المبرهَنات" تسمى «لين» Lean يمكنها التحقق من صحة البراهين، بل يمكنها أيضًا اقتراح إدخال بعض التحسينات عليها، تمامًا مثلما تقوم برامج معالجة الكلمات باكتشاف الأخطاء فيما نكتبه، أو استكمال الجمل نيابةً عنَّا، يتصل برنامج «لين» بقاعدة بيانات للنتائج المُثْبَتة، ويجب الآن تحويل الدراسات الجديدة في مجال الرياضيات بعناية إلى لغةٍ يمكن لبرنامج «لين» أن يتعرف عليها، ولكن البرامج المعتمدة على الذكاء الاصطناعي، مثل برنامج «لين» قد تصبح فيما بعد قادرةً على التوصل إلى "اكتشافات رياضيات جديدة، وإيجاد حلول جديدة لمسائل قديمة"، وفق التقرير الذي نشرته «مجلة كوانتا» Quanta Magazine.
ويرحب بعض اختصاصيي الرياضيات بفكرة "رقمنة" الرياضيات، التي سوف تسهم في تسهيل عمليات التحقق عن طريق الحاسوب، ومن ثم تجعل علم الرياضيات أكثر مصداقية، ولكن هناك اختصاصيين آخرين لا يزالون متأرجحين، مثل مايكل هاريس، اختصاصي الرياضيات بجامعة كولومبيا الأمريكية، الذي يقول إن التقدم المحرَز في علم الرياضيات المحوسبة يثير تساؤلًا عميقًا: ما الغرض من الرياضيات؟ يرى هاريس أن الرياضيات "نشاط إبداعي حر"، يُمارَس -مثله مثل الفن- لذاته، ولمجرد الاستمتاع بالاكتشاف والمعرفة.
ولا يعارض هاريس فكرة ميكنة الرياضيات في حد ذاتها؛ إذ يشير في مقال نُشر مؤخرًا في مجلة «بور لا سينانس» Pour La Science -وهي الطبعة الفرنسية من مجلة "ساينتفك أمريكان " Scientific American (انظر/ي هنا للاطلاع على ترجمة جزء من المقال)- إلى أن علماء الرياضيات قد استخدموا الأجهزة الميكانيكية، مثل المِعداد، لآلاف السنين، وأنهم أيضًا الذين اخترعوا الحاسوب.
ولكن هاريس يخشى من أن تشجع أدوات مثل «لين» على تشكيل "تصور قاصر" عن الرياضيات، واعتبارها سلعةً استهلاكيةً أو منتجًا اقتصاديًّا، وليست "أحد الأنشطة التي تعبر عن إنسانيتنا"، وهو قلَق له ما يبرره؛ إذ نجد أن ممولي الأبحاث في علم الرياضيات، مثل «جوجل» و«وكالة الأمن القومي الأمريكية» National Security Agency يهتمون بالرياضيات لطبيعتها التطبيقية في المقام الأول، فكما يقول هاريس: إن الرياضيات "لا غنى عنها في مجالات الهندسة والتكنولوجيا وإدخال البيانات وحفظها وأي نشاط ينطوي على استشراف المستقبل".
نحن أيضًا نهتم بالعلم لطبيعته التطبيقية؛ إذ إن هؤلاء الذين يكتبون عن العلم من منطلق عاطفي -وأنا منهم- يرون أن الغرض منه هو أن نفهم الطبيعة، لكن في العصر الحديث، أصبح الهدف الأساسي للعلم هو تحقيق السلطة؛ فالعلم يساعدنا في التلاعب بالطبيعة من أجل الوصول إلى غايات مختلفة، مثل إطالة أعمارنا، وتضخيم ثرواتنا، وتسليتنا، وتعزيز الاقتصاد، وهزيمة الأعداء، فمعظمنا مثلًا يجد الفيزياء الحديثة مبهمةً ومستَغلقة، ولكن ذلك لا يقلقنا، طالما أن الفيزياء تمنحنا الهواتف الذكية والقنابل الهيدروجينية.
وغالبًا ما يتبنى علماء الفيزياء الرؤية النفعية، المتمثلة في شعار "فلتصمت وتُحصِ!"، هذا غالبًا ما يشاع أن الأساتذة يقولونه للطلاب الذين تستعصي عليهم الميكانيكا الجزيئية، هذه الرسالة مفادها أن على الطلاب تطبيق المعادلات الكمية -على سبيل المثال في عمليات تصميم الحواسيب الكمية- دون محاولة معرفة معانيها، وبالفعل، فقد توقع ستيفن هوكينج ومارتن ريس أن يكون للذكاء الاصطناعي دورٌ متنامٍ في علوم الفيزياء، ولكن ألن يكون من العجيب أن يتوصل الذكاء الاصطناعي الكمي إلى نظرية الفيزياء الموحدة التي طال انتظارها دون أن تجد مَن يفهمها، حتى إدوارد ويتن، العالِم الألمعي المتخصص في نظرية الأوتار؟
تستدعي ميكنة المعرفة إلى الأذهان تجربة «الغرفة الصينية»؛ ففي هذا الطرح الفلسفي الشهير، يتم إدخال أسئلة مكتوبة باللغة الصينية إلى شخصٍ موجودٍ داخل غرفة، ورغم أن هذا الشخص لا يعرف اللغة الصينية، فإن بحوزته دليلًا يوضح كيفية الاستجابة لسلسلة من الحروف الصينية بسلسلة أخرى تمثل إجابةً مناسبةً عن السؤال، وبهذه الطريقة يتصرف الشخص الموجود داخل الغرفة وكأنه يفهم اللغة الصينية.
وقد صاغ الفيلسوف جون سيرل تجربة الغرفة الصينية لزعزعة الادعاء القائل بأن الآلات تستطيع التفكير، يشبِّه سيرل الحواسيب بذلك الشخص الموجود داخل الغرفة، الذي يقوم -دون فهم- بمعالجة الرموز دون أن يعرف معانيها؛ فكلما زاد اعتماد اختصاصيي الرياضيات والعلماء على الآلات في أداء عملهم، أضحوا أكثر شبهًا بالشخص الموجود داخل «الغرفة الصينية».
وعندما حذّرتُ قبل بضع سنوات من تبعات ظهور اختصاصيي الرياضيات الاصطناعيين، وبّخني سكوت آرونسون، الذي يدرُس علم الحاسوب والرياضيات والفيزياء، قائلًا: "من المرجح أن تحل الحواسيب محل البشر في جميع مجالات البحث في علم الرياضيات، ولكن من المرجح أيضًا أنه بحلول ذلك الوقت، سيكون باستطاعتها الحلول محل البشر في مجالات الموسيقى والصحافة العلمية وكل شيء آخر!"، مهلًا، الصحافة العلمية؟ مستحيل!
وعلى ذِكْر ذلك، يمكن القول إن السؤال الذي طرحتُه في عنوان هذا المقال: "هل يفيد أن تحل الآلات محل اختصاصيي الرياضيات؟" ليس في صميم موضوعنا؛ لأنه يوحي بأن اختصاصيي الرياضيات لديهم فرصة الاختيار، ولكن هناك سؤالًا أفضل، وهو عما إذا كانت الآلات تستطيع أن تحل محل اختصاصيي الرياضيات، أنا شخصيًّا تراودني الشكوك حيال بعض الأفكار الداعمة للذكاء الاصطناعي، ولكننا إذا أخذنا في الاعتبار القوى النافذة التي تدعم التحول نحو الحوسبة، فإذا كانت الآلات تستطيع أن تحل محل اختصاصيي الرياضيات، فمن المرجح أن ذلك سوف يتحقق بالفعل، وفي تلك الحالة، سوف تحل الآلات كذلك محل السائقين، ومحاسبي البنوك، ووكلاء السفر، والصرافين، وغيرهم من العاملين، وقتها لن يأبه أحدٌ لرغبات علماء الرياضيات أو اختياراتهم حيال هذا الأمر، مثلما لا يأبه أحدٌ لرغباتهم في السعي وراء الحقيقة من أجل ذاتها، وليس لأسباب نفعية.
في المستقبل، قد لا تشبه الرياضيات سلسلة جبال نائية، بل مصنعًا تتولى فيه الروبوتات تجميع السيارات، يتجول عددٌ قليل من الفنيين البشر داخل المصنع، للتأكد من أن الروبوتات تعمل بكفاءة، في حين أن الأخيرة هي التي تقوم بجميع عمليات رفع المعدات الثقيلة، وفي الوقت ذاته يزداد البشر النافذون الذين يمتلكون المصانع -وربما مستقبل الرياضيات- ثراءً وقوة.
اضف تعليق