لا يمكن القول إن التكنولوجيا بوجه عام والإنترنت على وجه الخصوص لهما طبيعة متأصلة تتسم بمعاداة الحياة الاجتماعية، فبإمكانهما أن يُضعفا تعاطفنا، لكن إذا استُخدما على نحو مختلف فقد يصبحان بمنزلة عدسة مكبرة بحجم العالم تُبرز أفضل ما لدينا من خصال...
قُبيل انطلاق فعاليات المعرض العالمي عام 1964، سُئل كاتب الخيال العلمي الكبير إيزاك أسيموف كيف يمكن أن يبدو حدثٌ مماثل بعد مرور نحو 50 سنة. فكان تخمينه أنه بحلول عام 2014 سنكون دومًا برفقة "لوحات مضاءة كهربيًّا"، تُستخدم من أجل الدردشة عبر الفيديو والتصفح، ولتحقيق هدف أعمق هو "الانسحاب من الطبيعة بهدف خلق بيئة أكثر ملاءمةً لنا".
المستقبل بالنسبة لأسيموف هو الحاضر بالنسبة لنا. وهذا يُثير القلق في نفوس الكثيرين من الناس الذين يعتقدون أن التكنولوجيا جعلتنا أكثر غباءً وحزنًا وانحطاطًا مما كنا عليه في السابق. وقد شهد التعاطف -أي قدرة الناس على مشاركة عواطفهم مع الآخرين وفهم مشاعر بعضهم بعضًا- انخفاضًا حادًّا في القرن الواحد والعشرين. وإذا اندثر التعاطف، فسوف تشير أصابع الاتهام على الأرجح إلى التكنولوجيا. والقرائن كلها متوافرة؛ إذ يُشار إلى أن الأشخاص الذين يعيشون في بلدان لديها قدرة أكبر على الدخول إلى شبكة الإنترنت يُظهرون قدرًا أقل من التعاطف. فمجرد ترك هاتف بين اثنين من الغرباء وهما يتحدثان يؤدي إلى تقليل الثقة الناشئة بينهما. وعريضة الادعاء واضحة وضوح الشمس: في حين تخدمنا التكنولوجيا على ما يبدو، فإنها تُسمِّم الروابط التي تُميزنا كبشر دون أن نشعر.
لكن لا يمكن القول إن التكنولوجيا بوجه عام والإنترنت على وجه الخصوص لهما طبيعة متأصلة تتسم بمعاداة الحياة الاجتماعية. فبإمكانهما أن يُضعفا تعاطفنا، لكن إذا استُخدما على نحو مختلف فقد يصبحان بمنزلة عدسة مكبرة بحجم العالم تُبرز أفضل ما لدينا من خصال. والكثير من أركان شبكة الإنترنت تتيح للناس بالفعل توسيع نطاق تعاطفهم ومشاركة بعضهم بعضًا مشاعر الود. ويعكف الباحثون على تحديد مكونات التكنولوجيا الإيجابية، وإذا ما أصبحت هي المعيار، فإن مستقبل الحياة على شبكة الإنترنت سيكون أكثر وُدًّا وتعاطفًا من الماضي. وينبغي على منصات الإنترنت أن تأخذ بعين الاعتبار هذه الأدلة، كما ينبغي على مستخدميها أن يطالبوها بذلك.
إن مقدرة الناس على التواصل بمنزلة المادة اللاصقة التي تعمل على تماسك ثقافتنا. وتعمل شبكة الإنترنت على إضعاف تفاعلاتنا وتشويه المشهد الإعلامي لدينا، وهي بذلك تسلُبنا الأرضية المشتركة التي نحتاج إليها كي يفهم بعضنا بعضًا. ويصبح كل واحد منا أكثر ثقةً بعالمه الخاص في حين ينجرف بعيدًا عن عوالم الآخرين. ويتطلب التعاطف منا أن نفهم أنه حتى الأشخاص الذين يختلفون معنا لديهم تجارب مَعيشة لا تقل في عمقها عن تجاربنا الشخصية. لكن في ظل المشهد المتشرذم لوسائل التواصل الاجتماعي، ليس لدينا من الخيارات سوى أن نرى الطرف الآخر أخرق أو خائنًا أو يجمع بين الصفتين. وإذا لم نعمل على تغيُّر هذا التوجه إلى النقيض، وإحياء التعاطف من جديد، فستكون فرصتنا ضئيلةً في إصلاح التمزقات التي أصابت نسيجنا الاجتماعي.
وليست تأثيرات التكنولوجيا التي تستنزفنا اجتماعيًّا من قبيل المصادفة، إنما هي تعكس الكيفية التي جرى بها تصميم منصات مثل فيسبوك وتويتر. وهذه المنصات، بدورها، تُشكِّلها حوافز مالية. فهذه المواقع لا ترضي المالكين لها من خلال جعل المستخدمين أصحاء أو سعداء، بل من خلال إبقائهم على شبكة الإنترنت. هذه الحتمية تُحبِّذ التطرف والغرور والخوف، أو بعبارة أخرى كل ما يستحوذ علينا ويواصل تأثيره. فنحو 70% من مشاهدات يوتيوب الآن تأتي من ترشيحات الموقع، وهي ترشيحات يجري تحسينها بحيث تحقق نسب مشاهدات عالية. والنتيجة هي تدفق أعداد هائلة من الزائرين لمشاهدة نظريات المؤامرة والتعصب والعداوة. وهذا ما يُطلق عليه تريستان هاريس -مسؤول الأخلاقيات السابق لدى جوجل- التكنولوجيا "الاستخراجية"؛ فهي تستغل نقاط ضعفنا وتصبح أكثر فاعليةً في إلحاق الضرر بنا كلما أصبحت أكثر تطورًا وتعقيدًا.
الحياة على الإنترنت تُغير من نظرتنا إلى الآخرين ومن نظرة الآخرين إلينا. فأحيانًا لا نُرى إطلاقًا؛ إذ يُستعاض عن وجوهنا وأسمائنا بصورة رمزية وسلسلة أحرف مجهولة. ويمكن أن يكون إخفاء الهوية أمرًا حيويًّا، على سبيل المثال، من خلال تمكين الناس من تنظيم احتجاجات بأمان في الدول الشمولية. لكنها تؤدي في الوقت ذاته إلى فقدان السيطرة على التفاعلات الاجتماعية، وتشجيع الناس على أن يُجربوا سلوكيات تتسم بالقسوة دون الكشف عن هويتهم، لعلمهم بأن هذا لن يكلفهم شيئًا. فالتنمر الإلكتروني يلاحق الناس داخل بيوتهم وعلى أَسِرّتهم، ويترك من خلفه ضحايا أكثر ميلًا إلى الانتحار من ضحايا التنمر التقليدي.
عندما نُرى على شبكة الإنترنت، يمكن للكيفية التي تتعامل بها شبكة الإنترنت مع سلوكياتنا المختلفة أن تُشوِّه الطريقة التي نُقدِّم بها أنفسنا. ففي دراسة جرت عام 2017، أجرى عالِم النفس ويليام برادي وزملاؤه تحليلًا لأكثر من 500 ألف تغريدة لمعرفة السبب في انتشارها. فوجدوا أنه كلما كان المنشور مشحونًا بقدر أكبر من "العاطفة الأخلاقية" -مثل الغضب- زاد معدل إعادة التغريد، لا سيما في الأوساط الأيديولوجية لناشر البوست الأصلي. وإعادة التغريد هو تأكيد بسيط وإدماني يُعزِّز الغضب. وبعد أن يُثاب الناس على تغريداتهم بمزيد من الاهتمام، فإن استجابتهم التالية هي أنهم يجعلون تغريداتهم اللاحقة مشحونةً بغضب أكثر من سابقاتها. تويتر لا يعكس فقط عالمًا غاضبًا، بل يساعد في إنشاء هذا العالم.
وسائل التواصل الاجتماعي تجعلنا أقل اجتماعيةً عندما تستعيض عن اللقاءات الثرية المباشرة مع الأصدقاء بسلاسل نص وصور مختارة بعناية. في مجموعة دراسات أُجريت عام 2017، أجرت جوليانا شرويدر -من جامعة كاليفورنيا في بيركلي- وزملاؤها تسجيلًا صوتيًّا لأشخاص يصفون رأيهم في قضايا سياسية استقطابية. وشُكِّلت مجموعة أخرى من "المقيمين"، إما من أجل الاستماع لآراء هؤلاء الأشخاص أو لقراءة نص مكتوب لتلك الآراء. كان المقيمون أكثر ميلًا إلى التحقير من شأن المتحدثين عندما اختُزلت آراؤهم في صورة نص، خاصةً عندما كان المقيمون يخالفونهم الرأي. فضعف التفاعلات زاد من صعوبة التعاطف.
تشخيص التأثيرات الضارة للتكنولوجيا هو الخطوة الأولى للتغلب على تلك التأثيرات. وقد شارك هاريس في تأسيس مركز التكنولوجيا الإنسانية لتشجيع المطورين والمستثمرين على بناء منصات إنترنت "تجديدية" وليس "استخراجية". وتكمن الفكرة في أن قدرتنا على التعاطف على الدرجة نفسها من عمق مشاعر الغرور والغضب والخوف، وينبغي على التكنولوجيا أن تُبرز القوى الأصلح والأكثر نفعًا.
وقد صُممت مواقع إلكترونية خصوصًا من أجل تعزيز التواصل والفهم. ففي موقع "تشينج أفيو" ChangeAView، ينشر الناس آراءهم حول مجموعة من الموضوعات، ويدعون نُظراءهم من الناشرين لإقناعهم بغيرها. ولا يُكافأ المعلقون على تصيُّدهم أخطاء الآخرين أو سبِّهم، ولكن على نجاحاتهم التي يُشار إليها بكلمة "deltas"، وهي إشارة إلى أن نقاشهم قد نجح في تغيير رأي شخص ما. والنتيجة هي إتاحة الفرصة لحوار حقيقي وودي وصادق بين أشخاص لم يكن متوقعًا أن يتفاعلوا معًا لولا هذا الموقع.
تبني التكنولوجيا كذلك مجتمعات جديدة على أساس التعاطف. تأمَّل مفارقة الأمراض النادرة مثل التليف التكيسي أو الوهن العضلي الوبيل. كل من هذين المرضين يؤثر في المتوسط في أقل من واحد من كل ألف شخص، لكن هناك حالات كثيرة مثل هذه، وهو ما يعني أن هناك الكثيرين من الناس الذين يعانون بطرق لا يفهمها أصدقاؤهم وجيرانهم. تحوَّل الملايين من الناس إلى المنتديات على الإنترنت مثل مجموعات فيسبوك أو موقع "ريركونكت" RareConnect. في عام 2011 أجرت بريا نامبيسان -خبيرة السياسات الصحية- استطلاعًا للرأي على نحو 800 عضو من أعضاء منتديات الصحة على شبكة الإنترنت. قال المستخدمون إن هذه المنتديات تقدم نصائح ومعلومات مفيدة، كما وصفوها بالمجتمعات الودودة، التي تزخر بالرحمة والمواساة.
وبعض المنصات الأخرى مثل "كوكو" Koko و"سيفن كابس" 7Cups طورت هذا النهج، بحيث يتيح لأي شخص الاعتماد على عطف الغرباء. فهذه المواقع تُدرِّب المستخدمين على منح دعم اجتماعي تعاطفي ومن ثم إطلاق العنان لتبادُل مشاعر الود. البعض منهم يُعبِّر عن صراعاته، والبعض الآخر يتدخل لتقديم الدعم. ويعتبر المستخدمون تلك المنصات وسيلةً تَبُث في نفوسهم شعورًا عميقًا بالطمأنينة. وفي استطلاع للرأي أُجري عام 2015، وصف مستخدمو موقع "سيفن كابس" الود الذي تلقوه على الموقع بأنه مفيد تمامًا مثل العلاج النفسي المتخصص. ويستفيد مستخدمو تلك المواقع كذلك من مساعدتهم للآخرين. ففي دراسة أُجريت عام 2017 طلب عالِم النفس بروس دُوريه وزملاؤه من مجموعة من الأشخاص إما أن يستخدموا موقع "كوكو" أو يستخدموا موقعًا آخر، ثم اختبروا صحتهم النفسية بعد ذلك. انخفضت مستويات الاكتئاب لدى مستخدمي موقع "كوكو" بعد أن أمضوا وقتًا على الموقع، خاصةً عندما استخدموه لتقديم الدعم للآخرين.
وتبدو مواقع إلكترونية مثل "تشينج أفيو" و"سيفن كابس" واحةً من التواصل وسط محيط يخلو تمامًا منه، وهما استثناءان يثبتان القاعدة. لكن ما يميز منصات التواصل هو اختلافها عن الممارسات الإلكترونية الشائعة المعادية للسلوك الاجتماعي. فتلك المنصات تتيح للناس أن يتفاعلوا ويكونوا مرئيين بعضهم لبعض، كما تكافئهم على الاستماع بدلًا من الصياح. ويمكن لشركات وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى أن تحذوَ حذوها من خلال إصلاح هياكل التحفيز بالطريقة التي تضمن الزيادة السريعة في أعداد المنشورات المتفتحة والإيجابية، أو من خلال تسهيل تواصل أطول زمنًا وأكثر ثراءً من حيث المضمون بين المستخدمين. لكن ينبغي عليها أن تسعى عن قصد لإحراز تقدم في هذه المهمة وبصورة عاجلة.
عُرف عن مارك زوكربرج أنه حثَّ موظفيه على "التحرك بسرعة وكسر الأشياء". الآن بات واضحًا أنهم كسروا الكثير. ومهما كثر شجبنا لتأثيرات التكنولوجيا، فلا سبيل للعودة. لكن يمكننا أن نُطور من أنفسنا في كشف ما تفعله بنا الحياة على الإنترنت وكيف يمكن أن تصبح أفضل حالًا. ويمكن أن تكون نقطة الانطلاق هي الشركات التي تُنشئ منصات التواصل الاجتماعي، لكن يمكن تفهُّم عدم ثقة المستخدمين بكون شركات التقنية العملاقة تضع مصالحنا نصب أعينها. ولن تزدهر تكنولوجيا الإنترنت الداعمة للحياة إلا عندما نطلبها من تلك الشركات.
اضف تعليق