إن بناء نماذج لغوية عربية قوية ليس مجرد رفاهية تقنية، بل خطوة استراتيجية تضمن المشاركة الفعالة للعالم العربي في تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي. ورغم الإنجازات الواعدة حتى الآن، لا يزال الطريق طويلًا ويحتاج إلى استثمار متواصل وجهود جماعية من كافة الأطراف في المنطقة...

بناء نماذج لغوية عربية قوية لم يعد مجرد رفاهية تقنية، بل خطوة استراتيجية تضمن المشاركة الفعالة للعالم العربي في تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي، في خضم السباق العالمي المحتدم لتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي، يتركز الاهتمام عادة على جهود الشركات والمؤسسات البحثية الكبرى في الغرب والصين. تعتمد هذه النماذج الدولية - مثل جي بي تي-4 من أوبن إيه آي، وجيميناي من جوجل- على كميات هائلة من البيانات، معظمها باللغة الإنجليزية ولغات غربية أخرى، مما يعكس الرؤى والقيم الثقافية للمجتمعات التي نشأت بها.

هنا يكمن تحدٍ حقيقي، يتمثل في الاعتماد المتزايد على نماذج ذكاء اصطناعي لغوية لا تعكس بالضرورة القيم والثقافة العربية وتنوعها اللغوي. هذا الاعتماد يتجاوز كونه مجرد تفضيل تقني، ليصبح قضية تتعلق بالسيادة الثقافية والتكنولوجية والهوية الوطنية.

تمتلك النماذج اللغوية واسعة الانتشار مثل "تشات جي بي تي" قدرة محتملة على التأثير في تصورات المستخدمين وأفكارهم، إذ يؤدي تدريبها على بيانات من ثقافات مختلفة إلى إجابات قد لا تُراعي القيم العربية أو تظل غامضة في قضايا محورية.

هناك أمثلة واضحة؛ فعند تعامل النماذج العالمية مع قضايا ذات أبعاد ثقافية محلية، مثل العلاقات الاجتماعية أو القضايا السياسية الجدلية، فإنها غالبًا ما تتبنى مواقف مبهمة لا تراعي السياق الثقافي العربي. هذا بدوره قد يخلق فجوة بين هذه الأدوات الرقمية وبين قيم المستخدم العربي وواقعه الاجتماعي.

غياب نماذج لغوية عربية قوية وقادرة على المنافسة قد يُجبر الباحثين والمطورين العرب على استخدام أدوات لا تستوعب بدقة خصوصيات اللغة العربية بتنوعاتها ولهجاتها، فضلًا عن تجاهلها للأبعاد الثقافية للمجتمعات العربية. 

هذا الأمر يقيد الباحثين عند تصميم تطبيقات وخدمات ذكاء اصطناعي ذات صلة مباشرة باحتياجات المستخدمين في المنطقة، كما يضعف المساهمة في التطور العالمي في هذا المجال الحيوي، إذ تُمثّل نماذجنا اللغوية مرآة لجهودنا البحثية والتطويرية.

في مواجهة هذا التحدي، ظهرت جهود عربية واعدة لمحاولة سد هذه الفجوة، من بينها نماذج مثل "جيس" من الإمارات، و"علام" من السعودية، بالإضافة إلى نموذج "فنار" الذي طوره معهد قطر لبحوث الحوسبة بالتعاون مع جهات حكومية، ضمن رؤية استراتيجية لتوطين التقنية وتعزيز الهوية الثقافية والاستقلال التكنولوجي.

غير أن تطوير هذه النماذج ينطوي على تحديات كثيرة، منها ندرة المحتوى العربي عالي الجودة على الإنترنت مقارنة باللغة الإنجليزية. فعلى الرغم من جمع نصف تريليون كلمة عربية لتدريب نموذج "فنار"، يظل هذا الرقم محدودًا مقارنةً بالنماذج العالمية التي تعتمد على تريليونات الكلمات. كما أن جودة البيانات المتاحة تشكل تحديًا إضافيًا، نظرًا لضعف دقتها أو تدني مستوى الصياغة اللغوية، فضلًا عن التنوع الشديد بين اللغة العربية الفصحى ولهجاتها المحكية، ما يُصعّب مهمة جمع البيانات وتمثيلها بشكل شامل.

أما التحدي الآخر فيتمثل في التكلفة الهائلة لتدريب هذه النماذج، إذ يتطلب تدريب نموذج بحجم 7 مليارات معلمة (Parameters) من تريليون كلمة، استخدام 220 وحدة معالجة من نوع "H100 GPU" لأكثر من شهر بشكل متواصل، وهي موارد لا تتوفر بسهولة للعديد من المؤسسات البحثية في المنطقة العربية. هذا التحدي هو ما دفع فريق "فنار" لتطوير نماذج أصغر بحجم 7 و9 مليارات معلمة، مع التركيز على تحسين جودة البيانات وتقنيات الضبط الإحصائي لتحقيق أفضل أداء ممكن بالموارد المتاحة.

لا يقتصر حل مشكلة الاعتمادية الثقافية والتقنية على لاعب واحد فقط، بل يتطلب الأمر تضافرًا للجهود من عدة أطراف. فمن المهم أن تستثمر المؤسسات البحثية والأكاديمية في بحوث معالجة اللغة العربية، وبناء شراكات دولية لتعظيم الاستفادة من الموارد والخبرات. كذلك ينبغي على الحكومات وصناع القرار توفير الدعم المالي المستدام للمشاريع البحثية الكبرى وتطوير البنية التحتية اللازمة للتدريب، وتصميم سياسات تدعم جمع وتنظيم البيانات العربية عالية الجودة، بالإضافة إلى تشجيع التعاون بين القطاعين العام والخاص لخلق بيئة داعمة للابتكار التكنولوجي.

من جهة أخرى، يتوجب على الشركات الناشئة والمطورين في المنطقة تبنّي النماذج اللغوية العربية، واستخدامها في بناء تطبيقات وخدمات تلبي احتياجات المجتمع العربي مثل أنظمة تعليمية ذكية أو مساعدين صوتيين باللهجات المحلية. كما يتعين على المؤسسات الثقافية والتعليمية والإعلامية المساهمة في توفير محتوى عربي رقمي متنوع وعالي الجودة، يمكن الاعتماد عليه في تدريب هذه النماذج.

إن بناء نماذج لغوية عربية قوية ليس مجرد رفاهية تقنية، بل خطوة استراتيجية تضمن المشاركة الفعالة للعالم العربي في تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي. ورغم الإنجازات الواعدة حتى الآن، لا يزال الطريق طويلًا ويحتاج إلى استثمار متواصل وجهود جماعية من كافة الأطراف في المنطقة.

اضف تعليق