في كل مرة تُطلق فيها الحكومة العراقية وعودا جديدة، يتشبث المواطن بخيط أمل قد يعيد شيئا من ثقته المفقودة في مؤسسات الدولة، لكن ما تلبث هذه الوعود أن تتحول إلى مصدر جديد للإحباط، بعد أن تُنقض أو تُؤجل أو تُفرغ من مضمونها...

في كل مرة تُطلق فيها الحكومة العراقية وعودا جديدة، يتشبث المواطن بخيط أمل قد يعيد شيئا من ثقته المفقودة في مؤسسات الدولة، لكن ما تلبث هذه الوعود أن تتحول إلى مصدر جديد للإحباط، بعد أن تُنقض أو تُؤجل أو تُفرغ من مضمونها. 

أحدث فصول هذا التراجع تجلى بوضوح في طعن وزارة المالية بقرار زيادة رواتب التربويين، وهي الخطوة التي مثلت نكوصا صريحا عن التزام أُعلن رسميا، وجرى الترويج له باعتباره إنصافا لشريحة تعبت من الإهمال.

لم تكن زيادة التربويين مجرد مطلب نقابي، بل كانت قضية رأي عام امتدت لأشهر، حيث وعدت الحكومة بتحسين الواقع المعيشي للمعلمين والمدرسين ضمن موازنة العام الحالي. 

وبالفعل صوّت مجلس النواب على التعديل، وعدته الأوساط التربوية خطوة أولى نحو إصلاح هيكلي في التعامل مع موظفي وزارة التربية، الذين يعانون من تدني الرواتب وغياب الحوافز.

غير أن طعن وزارة المالية بالقرار أمام المحكمة الاتحادية مثل صدمة مضاعفة، ليس للتربويين وحدهم، بل لكل من يرى في استقرار السياسات الحكومية مقياسا لمصداقيتها.

تبرر الوزارة طعنها بـمخالفة القرار لمبدأ التوازن المالي، وعدم وجود خزين مالي، وهو تبرير يبدو منسجما مع لغة الأرقام، لكنه يتعارض مع منطق السياسة الذي يقتضي الالتزام بالوعود العامة، خصوصا تلك التي ترتبط بملايين العوائل.

قرار التراجع هذا ربما يهدم آخر ما بني من ثقة بين الحكومة والجهات الشعبية، فحين تتراجع الحكومة عن قرارات سبق أن احتفت بها، فإنها لا توفر المال فقط، بل تخسر الثقة التي تعتبر بمثابة رأس المال الأثمن في علاقة السلطة بالمجتمع.

ويكمن جوهر الأزمة في أن التراجع عن الوعود أصبح ظاهرة أكثر من كونه استثناء، ولم يقف الامر عند الوعود، بل يمتد من ملف التعيينات والعقود إلى مشاريع الخدمات والإسكان، حيث تتكرر السيناريوهات ذاتها، اذ يبدأ السيناريو عادة بإعلان يثير التفاؤل، ثم صمت، فتباطؤ، فاعتذار غير مباشر، وهو القشة التي قصمت ظهر البعير.

هذه الدورة من الوعود والنكوص تولد نوعا من اللامبالاة الشعبية، إذ بات المواطن يدرك أن ما يُعلن في المؤتمرات الصحفية، وكذلك ما ينشر في الصحف الرسمية، لا يجد طريقه إلى التنفيذ غالبا.

وما يثير الاهتمام في مشكلة التربويين، إنها أعمق من مجرد طعن إداري أو خلل في التنسيق بين الوزارات، إنها أزمة إدارة وثقة في آن واحد، فحين تعلن جهة رسمية عن مبادرة أو مكافأة أو تعديل قانوني، ثم تتراجع عنها بعد أسابيع، فهي تُضعف صورة الدولة في نظر مواطنيها، وتظهر كمن يتحدث بصوتين.

وفي بلد يعاني أصلا من انقسام سياسي وضعف مؤسساتي، يصبح هذا الارتباك ضربا من العبث الإداري الذي يضاعف الفجوة بين الحكومة والمجتمع.

لقد أثبتت تجارب السنوات الماضية أن نكوص الحكومات عن وعودها لا يمر بلا أثر، بل يراكم الغضب الصامت، ويؤسس لموجات رفض اجتماعي تتجاوز حدود الملفات المعيشية إلى التشكيك في كل خطاب رسمي، فالحكومة التي تريد بناء ثقة طويلة الأمد، لا بد أن تبدأ من احترام كلمتها، لأن المواطن الذي يُخدع مرة سيصغي بحذر في المرة الثانية، وسيدير ظهره تماما في الثالثة.

وفي النهاية، ليست القضية مجرد طعن في زيادة مالية، بل طعن في مصداقية السلطة ذاتها، فحين تُفرط الحكومات بوعودها، تفقد شيئا من شرعيتها المعنوية، وتمنح الشارع مبررا إضافيا لعدم الإيمان بقدرتها على الإصلاح.

اضف تعليق