هذه المدرسة الرائدة بفكرها قادرة على خدمة الأمة، بل ونعتقد أن المستقبل سيوفر لها فرصا أفضل لتقوم بدورها.. فإن الأمة وهي تتطور في ثقافتها سوف تبحث عن الأفضل من الأفكار. وبكلمة كان الإمام الراحل مرجع جماعة، ورأس طليعة.. ويمكن أن يكون فكره برنامج أمة...
هذه أسئلة وجهتها مجلة النبأ الى سماحة الشيخ فوزي آل سيف، بمناسبة عام على رحيل المرجع الديني الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس سره):
تأثيرات مدرسته على المرحلة التاريخية التي عايشها والحاضر والمستقبل
يتصور البعض من الناس أن القوة هي التي تؤثر، أو أن الأوضاع السياسية هي التي تصنع المرحلة التاريخية، بينما المستقرئ لتاريخ الحضارات يرى أن الذي يصنع كل ذلك هو الفكر والمعرفة، وعلى ضوئه تتحرك الأمم وتنشأ الحضارات. والفكر وإن لم تُر آثاره المباشرة بسرعة في أوضاع الأمة -إذ التغيير الذي يحصل تدريجي- إلا أنه مع امتداد الزمان يصنع تأثيرا هائلا.
المنعطفات الصعبة والأليمة
كان من الطبيعي أن يكون في حياته (قدس سره) الكثير من المنعطفات الصعبة والأليمة، بل كان خلاف ذلك غير طبيعي، فالرجل الذي حمل على عاتقه هدف إنهاض الأمة ككل، وليس مدينة أو بلدا.. ولم يتخل عن هذا الهدف منذ شبابه إلى أن اختاره الله، كان طبيعيا أن تكون العقبات إمامه بقدر أهدافه العالية.
أذكر ذات مرة تشرفت بزيارته قبل انتقاله إلى الرحمة الإلهية، في منزله ولم يكن في الغرفة الصغيرة حينها أحد، فذكرت لسماحته أنه لو يتم تنظيم الأمر الكذائي بالنحو المعين، لكان أكثر إنتاجا.. فتبسم رحمه الله وقال: هل تذكر بيت الشعر المذكور في مغني اللبيب:
تعجبين من سقمي؟-----صحتي هي العجب!!
وكان في ذلك الاستشهاد إجابة على ما تم الحديث عنه، وعلى السؤال المذكور أعلاه يمكن أن يكون جواباً.
المهم هو نمط مواجهته لتلك المصاعب والمشاكل، حيث لم تنحت من جبل إصراره شيئا.
الحالة العلمية الموسوعية
أعتقد أن الله سبحانه وتعالى، ينعم -وهو المنعم الفياض- على البشر أحيانا بنماذج وقدوات عليا، من غير المعصومين، يؤدي وجودها غرضين:
- تقريب فكرة المعصوم: بحيث لو رأينا شخصا في هذا المستوى من الإحاطة العلمية (هو البحر من أي النواحي أتيته)، مع أنه لم يُعد لدور إلهي استثنائي، وإنما ضمن حدود الحالة البشرية من الاكتساب العلمي، والنشاط الذهني.. وهو بهذا المستوى العظيم. فكيف لو كان الله يريد دورا استثنائيا للشخص كما هو في حالة المعصوم. وكيف لو كان علمه من غير الطريق الاكتسابي العادي؟
- والغرض الآخر: أن يكون هؤلاء النماذج حجة على من عداهم من بني صنفهم، فإذا اعتذر الإنسان بعدم قدرته على التبليغ والإرشاد والتأليف، وعدم سماح الظروف له بذلك.. جيء له بأمثال هؤلاء الأطواد.
وسيدنا الراحل هو من تلك النماذج العالية التي يمكن الاحتجاج بها على القاعدين، والخاملين.
شمولية الإمام الشيرازي
شمولية النظرة فرع وضوح البصيرة، فإذا كان العالم نافذ البصيرة عارفا وجدته ينظر في مواضيعه المختلفة بتلك النظرة الثاقبة. ولذا وجدناه رحمه الله كما يتناول المسألة الفقهية في موضوع الوضوء والصلاة، يتناول المسألة السياسية في أمر إنهاض الأمة وتغييرها.
العقلية المرجعية الإدارية
لعل الحديث عن كتاب (إلى وكلائنا في البلاد) أولى فهو الأول من نوعه الذي يتضمن تلك التوجيهات الراقية، التي تسهل على الوكيل الإدارة الاجتماعية، وكيفية تأسيس المؤسسات، والنظر إلى الحاجات القائمة في المجتمع ونقاط الضعف فيه بغرض رفعها.
المرجعية الميدانية
لو أراد الباحث أن يتأمل في هذه الجهة لوجد عدة جهات مؤثرة في كون مرجعيته بذلك النحو:
الأولى: أنه عليه الرحمة كان دائم التشجيع والحث على العمل المؤسساتي، وكان يرى كل شخص مسؤولا عن القيام بجهد ما في هذا السبيل، وأي شخص كان يزوره يجد عنده هذه التعبئة في اتجاه العمل. سواء كان طالب علم أو كان موظفا، بل حتى لو كان طالب الثانوية.. وكم أثار في نفوس هؤلاء الحماس، والاحساس بالذات واقتحم بذلك نقاط الضعف النفسي والتردد عندهم، وأزال الحواجز الداخلية التي تعيقهم عن العمل، وكم من شخص قد ذكر أنه قام بالعمل الفلاني على أثر تلك الكلمات التي سمعها في مجلسه.
الثانية: أنه كان دائم المتابعة، بنحو يتعجب منه المرء، فقد يزوره شخص بعد عدة سنوات، فيعيد عليه ما كان قد طرحه عليه سابقا، ويسأله عما إذا كان قد أنتج شيئا في هذه المدة. ويقترح عليه اقتراحات جديدة لتطوير عمله لو كان قد عمل شيئا.
الثالثة: يظهر من طريقة عمله رحمه الله أنه كان يؤمن بالمثل القائل (دع ألف زهرة تتفتح)، وهذه الطريقة وإن كان البعض يرى فيها بعدا عن التركيز، وبالتالي قلة الانتاج، وأن من المفروض أن يركز القائد في عمله على جهة أو جهات محددة حتى يحصل على نتائج واضحة.
إلا أنه (رحمه الله) - ولعله لما يراه من الحاجة الشاملة الموجودة في الأمة، سواء في جانبها الثقافي، أو الاجتماعي أو السياسي، ولما يراه من أن بعض الطاقات في الأمة تستطيع الإنتاج في جانب دون غيره - كان ينشر الحماس والاندفاع عند الجميع.. كل بحسب ما يستطيع وفي المجال الذي يحتمل سماحته أن السامع قادر على الإنتاج فيه.
شورى الفقهاء كضمان احترازي ضد آفة الديكتاتورية
مما سبق به الإمام الراحل عليه الرحمة والرضوان، كان مجموعة من الأفكار التي خرجت عن السياق العام في جهتيه التقليدية والثورية. ففي الاتجاه التقليدي للمرجعية الدينية عند الشيعة كان التعرض للفكر السياسي، يعد أمرا غير مألوف، بالرغم من وجود فقهاء في تاريخ الشيعة كان لهم أدوار سياسية، وفكر سياسي متميز إلا أنه كان يشكل الاتجاه غير المعتاد.
والنمط الفكري الذي كان يملكه السيد الشيرازي تغمده الله بالرحمة، كان بهذا المعنى خارجا على المألوف المعتاد، إذ أنه في نفس الوقت الذي يتحدث فيه ويكتب في المواضيع التخصصية الحوزوية، بل المغرقة في ذلك (كشرح المنظومة) وأمثالها كان يكتب ويتحدث في مواضيع مثل تطبيق الإسلام والدولة الإسلامية (قبل أن تتبلور فكرة الدعوة إليها بعشرات السنين) ومثل مسألة اللاعنف في التغيير في الوقت الذي كانت تتبنى فيه الحركات الإسلامية، بل والشيعية، منهج الكفاح المسلح وتراه طريقا -وحيداً أحياناً- للتغيير السياسي، وكان السيد في ذلك الوقت يرى خلاف هذا المنهج ويصر على اللاعنف.. في وقت كان التفوه بهذا المبدأ يحتاج إلى شجاعة فائقة.
وهكذا الحال بالنسبة إلى الأمة الواحدة، مع أن التوجهات الولائية والشيعية للإمام الراحل كانت في أعلى درجاتها، لكنه مع ذلك كان يدعو إلى وحدة الأمة الإسلامية وينظّر على هذا الأساس.
كما أن أفكاره في مسألة التعددية الحزبية، والتنظيم تعتبر أكثر من (جريئة) لا سيما مع النظر إلى الأوضاع السائدة في تلك الفترة في عالمنا الإسلامي.
ومثل ذلك الحديث عن شورى الفقهاء كطريقة متميزة للإدارة المرجعية لشؤون المسلمين، وطرح جديد لـ (ولاية الفقيه والحاكم الشرعي).
هذا في الوقت الذي كان اتجاه شيعي ثوري، يرى (ولاية الفقيه) بالصورة المعروفة حالياً..
وكان الإمام الراحل بأفكاره تلك قد سبق عصره في أصل الدعوة إليها، واختلف مع التيارين في آثار تلك الأفكار، وكان يحتاج في ذلك إلى شجاعة كبيرة ليصر على الدعوة إليها ويستمر عليها.
ممارسة المرأة لدورها الاجتماعي
مع أن الناظر بنظرة عابرة، قد يرى السيد الشيرازي رحمه الله ذا منهج تقليدي في النظر للمرأة، من خلال ملاحظته لجوانب الاحتياط التي يفتي بها في أمر الحجاب والغطاء للوجه، وسائر المسائل، إلا أن المتأمل بعمق في فكره يرى أنه قد أعطى لها دورا أساسيا في مجالات الخدمة للمجتمع، والأدوار السياسية والعامة الأخرى، سواء على الصعيد النظري في كتبه، أو من خلال رعايته العامة للنشاطات النسائية سواء تلك التي كانت في الكويت أيام إقامته فيها، أو تلك التي كانت في إيران، ومما يكشف عن ذلك أن آخر ساعاته كان له لقاء مع إدارة الهيئات النسائية في إيران، وبعدها ألمّ به ذلك العارض الصحي الممض.
الخصوصيات المميزة للإمام الشيرازي
مما ينقل من شعر أبي العلاء المعري، في حق الشريف المرتضى أنه قال:
لو جئته لرأيت الناس في رجل-----والدهر في ساعة والأرض في دار
والذي عرف الإمام الراحل، يرى في ذلك الشعر انطباقا عليه.
مستقبل مدرسة الإمام الشيرازي
كما ذكرت سابقاً الأفكار الناضجة هي التي تصنع التغيير إذا تفاعلت معها الأمة، ونحن نعتقد أن هذه المدرسة الرائدة بفكرها قادرة على خدمة الأمة، بل ونعتقد أن المستقبل سيوفر لها فرصا أفضل لتقوم بدورها.. فإن الأمة وهي تتطور في ثقافتها سوف تبحث عن الأفضل من الأفكار. ومن جهة أخرى فإن كثيرا من الحواجز التي كانت سائدة في الماضي، وكانت تمنع عن الاستفادة من أفكاره الرائدة قد زالت، أو ضعفت.
وبكلمة كان الإمام الراحل مرجع جماعة، ورأس طليعة.. ويمكن أن يكون فكره برنامج أمة.
اضف تعليق