عالمٌ بلا حروب

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

يطرح الإمام الشيرازي رؤيته المتفائلة، لقيام عالم أفضل، خالٍ من الحروب والصدامات، فيؤكد على أن العالم بإمكانه أن يخطو نحو السلام خطوات سريعة وفعالة، أما وجود الفقر في بعض دول العالم، فهناك أسباب أدت إلى صنع هذه الفجوة الاقتصادية بين الدول الفقيرة والغنية، ومن هذه الأسباب الاستغلال الرأسمالي للشعوب الضعيفة...

(الحروب في منطق العقل والعقلاء اعتداء، ولا اعتداء مع سيطرة العقل والعقلاء)

الإمام الشيرازي

 

منذ عشرات القرون، ومنذ أن دبَّت موجات الفلسفة في عقول البشر، في أيام أفلاطون وسقراط وأرسطو وغيرهم من الفلاسفة، كان الإنسان يحلم بمدينة فاضلة، بعالم بلا حروب، خالٍ من صليل السيوف، والرماح، يعمّه العدل والتوازن والهدوء، فطرح أولئك الفلاسفة تصوراتهم لكي يتجنب البشر بشاعة الحروب، ويتعلموا العيش في ربوع السلام.

عالمٌ بلا حروب، هذا هو الحلم البشري القديم الجديد، ولكن مرّت البشرية عبر رحلتها الطويلة والشاقة، حيث يعيش ملايين البشر مع بعضهم في كوكب الأرض، مرت بحروب قاسية مدمِّرة، وأقربها لنا تاريخيا الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، حيث حصدت هاتان الحربان ملايين البشر وأزهقت ملايين الأرواح، وكانت النتيجة خراب عميم.

العلماء والمفكرون والفلاسفة المعاصرون سعوا إلى تقويض أسباب الحروب، وطرحوا أيضا تصوراتهم التي من شأنها كبح جماح النفوس الشريرة التي لا ترى حلولا لمشكلات العالم إلا عن طريق الحرب، فجاء التركيز على أهمية العودة إلى فطرة الإنسان الأصيلة، فهي كفيلة بإعادة الإنسان إلى رشده وإلى التفكير العقلاني العادل الذي يحاصر شبح الحرب ويطفئ لهيبها عبر التفاهمات والحوارات التي يجب أن تكون بديلا للتصادم.

الإمام الراحل، آية الاله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، وضع بعض اللمسات الإنسانية التي تساعد على تحجيم أسباب اندلاع الحروب، حيث يقول في كتابه القيِّم الموسوم بـ (فقه المستقبل):

(إننا نرى أن عودة البشرية إلى الفطرة التي فطرها الله سبحانه وتعالى عليها قضيّة حتمية، ومن نتائج هذه العودة قلّة الحروب بنسبة كبيرة جداً أو انعدامها إطلاقاً؛ لأنّ الحروب في منطق العقل والعقلاء والفطرة اعتداء، ولا اعتداء مع سيطرة العقل والعقلاء).

وفي حال التشجيع نحو فطرة الإنسان، فربما تنشب بعض الحروب الصغيرة هنا وهناك، ومعظم هذه الحروب تكون ذات طابع دفاعي، وليست حروب هجومية، لذلك سوف تكون الخسائر الناجمة عن تلك الحروب بسيطة أو قليلة، لأن الحرب الدفاعية تكون نظيفة بسبب انعدام القتال الهجومي بين الدولتين المتحاربتين.

حيث يقول الإمام الشيرازي:

(أمّا إذا وقعت الحروب الدفاعية ـ وهذا قليل جداً ـ فتكون نظيفة في غاية النظافة ومحدودة في الزمان والمكان؛ إذ لا تستغرق وقتاً كثيراً).

دور الفطرة في تثبيت التوازن العالمي

ويطرح الإمام حلولا معقولة، وممكنة التطبيق، ويدعو إلى أهمية أن تتكاتف الجهات الرسمية والمنظمات والمؤسسات الأخرى، كي تطفئ محركات التصادم، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو جغرافية أو غيرها، المهم أن يكون هناك تحرّك جمعي لإيقاف الحروب.

من الممكن أن تجتمع الأطراف ذات الرغبة بالسلام، ونشره بين شعوب العالم، ويصدر عنها قرارات فعلية عملية تضع حدّا للحروب، ومن المهم جدا أن تتم معالجة أسباب وقوع الحرب عبر الحوار والتفاهمات التي تقوم على أسس العدل وحفظ الحقوق بشكل متبادَل.

يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:

(لذلك لابد من تكاتف قوى الخير والمؤسسات الدينية والإنسانية في كل الدول، للقضاء على الحروب وجذورها والحد من وقوعها وأسبابها بشكل أسرع وأشمل).

بالطبع يرى الإمام أهمية معالجة الأسباب، وتعاطي مع العوامل التي من شأنها تأجيج الحروب بين شعوب الالم، وغالبا لا تكون الأسباب مباشرة لاندلاع الحرب، فمثلا الصراع الجغرافي لم يكن هو السبب الأول والأخير لقيام الحروب، ولا الصراع السياسي، ولا الاقتصادي الذي يؤدي إلى تصادم المصالح الأساسية للدول.

بل هناك أسباب غير مباشرة، مثل الفقر، وانتشار الربا، وفساد المسؤولين، وقلّة الأخلاق، هذه كلها أسباب غير مباشرة لاشتعال الحروب، ولذلك يدعو الإمام الشيرازي بشكل دائم ومستمر إلى ضرورة مكافحة هذه الأسباب غير المباشرة، لأنها في الغالب تشعل الحروب بين دول العالم، وتؤدي إلى أجواء الاضطراب والعنف بين المجتمعات المختلفة.

حيث يؤكد الإمام الشيرازي قائلا:

(لاشكّ أنّ هنالك أسباب مباشرة وغير مباشرة لنشوب الحروب بين دول العالم، ومن الأسباب غير المباشرة الرّبا والفقر والجهل حيث تعدّ من العوامل المسبّبة للحروب في عالم اليوم، ولما كان اتجاه الربا والفقر والجهل إلى الزوال، فإن ما يتبع ذلك هو الازدهار الاقتصادي والعلمي، وبسبب هذا الازدهار ستعم العدالة أرجاء الكون، الأمر الذي سيؤدي إلى توقف الصراعات والنزاعات المسببة للحروب).

ولدينا مثال واقعي ومعروف عن أهمية تلبية نداء الفطرة كخطوة فعالة وناجحة للقضاء على الحروب، ومنع نشوبها، فالدول الأوربية على سبيل المثال، مرت في مرحلة صراعات وحروب قاسية، وكان السبب ضعف الاعتماد على الفطرة، بل كان التطرف والكراهية وافتعال التشاحن بين الدول، يمثل سببا كبيرا في قيام الحروب بين دول أوربا.

لكن بعد حالة الوعي الكبير والفهم الذي انتشر بين قادة هذه الدول، وعودة الناس إلى فطرتها والتعامل العقلاني القائم على التفاهم والحوار، هذه الأمور كلها ساعدت على عودة هذه الدول إلى جذورها فيما يتعلق بالتعامل الفطري، وتم معالجة معظم الخلافات، ليس من خلال نشوب الحرب بين الدول، وإنما هناك أساليب أخرى حفظت حقوق الجميع.

الثقافة العالية وتذليل العقبات

وكان لوعي الناس وثقافتهم العالية دور مهم في تذليل العقبات التي غالبا ما تؤدي إلى التصادم والحروب، ومن أهم هذه العقبات، الكراهية، التطرف، ضعف الفطرة وعدم الاعتماد عليها في معالجة المشكلات بين الدول.

يقول الإمام الشيرازي في هذا الخصوص:

(نحن نلاحظ ذلك في نطاق بعض الدول، كالدول الأوربية التي كانت تعاني من الحروب الداخلية لعدة قرون، فقد انتهى زمنها ولبّت نداء الفطرة والعقل، وأخذت بالتعاون بدلاً من التناحر، وأخذت بالوحدة بدلاً من الفرقة والتمزق، فتكوَّن الاتحاد الأوربي من دول كانت متصارعة ومتنافسة، بعضها يستعمر البعض الآخر).

ويطرح الإمام الشيرازي رؤيته المتفائلة، لقيام عالم أفضل، خالٍ من الحروب والصدامات، فيؤكد على أن العالم بإمكانه أن يخطو نحو السلام خطوات سريعة وفعالة، أما وجود الفقر في بعض دول العالم، فهناك أسباب أدت إلى صنع هذه الفجوة الاقتصادية بين الدول الفقيرة والغنية، ومن هذه الأسباب الاستغلال الرأسمالي للشعوب الضعيفة.

هذا الأمر أو المشكل يحتاج إلى وقفة عالمية جادة، وخصوصا من قبل الدول المستحكمة بثروات وموارد العالم، وحصرها في مجال التطور الرأسمالي القائم على الاحتكار، لذا يجب إزالة أسباب الفقر، وإلغاء مضاربات الاستغلال الرأسمالي، وهو كما تشير التعاملات والوقائع آخذ بالانحسار وهذا يؤدي بالنتيجة إلى عالم بلا حروب.

حيث يقول الإمام الشيرازي:

(عالمنا اليوم يسير بخطى كبيرة نحو إزالة معالم الفقر والمرض والجهل، وإذا وجدنا بعض الفقراء في مجتمعاتنا، فإنّ ذلك نتيجة طبيعية لاستغلال الرأسماليين للمال، حيث صار المال دولةً بين الأغنياء، وهذا الاستغلال آخذٌ في الزوال، وقد جاء به الاستعمار وهو آخذ بالزوال أيضاً نتيجة وعي الشعوب الحرة).

هذه هي خلاصة رؤية الإمام الشيرازي، التي تعد في جوهرها رؤية فلسفية صالحة وممكنة التطبيق، فيما لو تم الأخذ بملاحظات الإمام وتم تطبيق رؤيته، وهي قضايا وخطوات ليست صعبة، لكن تحتاج إلى إرادة قوية لحكومات العالم، التي يجب أن تجعل الحوار سبيلا لمعالجة التصادم، ومنع وقوع الحروب قبل اندلاعها، والمساهمة في بناء الحلم البشري الذي سيظل قائما إلى الأبد وهو العيش البشري الجماعي في (عالم بلا حروب).

اضف تعليق