رفض الإمام (ع) الانخراط في الصراعات المسلحة العبثية، لكنه لم يسكت عن الظلم، بل ربّى جيلاً واعياً قادراً على مواجهة الانحراف بالعلم، في زمن الثورات والاحتجاجات، نرى أن التغيير الحقيقي يأتي عبر التوعية الطويلة المدى، كما فعل الإمام (ع)، وليس بالعنف العشوائي...
الحكمة هي الكنز الذي أنار طريق الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وهي ليست مجرد معرفة، بل فنٌّ في التفكير، وروحٌ في التعامل، وضابطٌ للأخلاق. ومن أبرز من تجسّدت فيهم هذه الصفة هو الإمام محمد الباقر (عليه السلام) 114 هـ، الذي أسس مدرسة فكرية جمعت بين العلم النظري والتطبيق العملي. فكيف يمكن لنا أن نستلهم حكمته في زمن طغت فيه الماديّة، وكثرت فيه التناقضات؟
1.الإمام الباقر (ع).. مدرسة الحكمة العملية
لُقِّب الإمام الباقر (ع) بـ"باقر العلم" لأنه شقَّ المعرفة بشمولية، فلم يقتصر على نقل الأحكام، بل علَّم أتباعه كيفية التفكير. ومن أبرز مظاهر حكمته:
أ) الحكمة في التعليم:
كان (ع) يُعلِّم تلامذته فنّ الاستدلال، يقول:
(تذاكر العلم دراسة، والدراسة صلاة حسنة)
في عصرنا، حيث تنتشر الشائعات والأفكار المغلوطة عبر وسائل التواصل، نحتاج إلى "ثقافة التثبُّت" وربط المعلومة بمصدرها الموثوق، كما علّمنا الإمام (ع).
ب) الحكمة في التعامل مع الخصوم
واجه (ع) حكّام بني أمية بالحجة الهادئة، فلم يُغلق باب الحوار، بل كان يُفحمهم بالمنطق، مثلما أجاب أحدهم حين سأله عن تفسير آية فأزال شبهته بعلمٍ عميق.
في زمن الاستقطاب السياسي والديني، نتعلم من الإمام (ع) أن القوّة في الحجة، لا في الصراخ، وأن الحوار الهادئ يُغيّر المواقف أكثر من التشنّج.
2.الحكمة الاجتماعية.. التوازن بين الثابت والمتغيّر
عاش الإمام الباقر (ع) في عصر مليء بالتحوّلات، فكان يربّي أتباعه على الثبات في المبادئ مع المرونة في الوسائل. من وصاياه:
_كونوا دعاةً للناس بغير ألسنتكم"* (تحف العقول)، أي بالسلوك العملي.
_خيرُ الأمور أوسطها"* (الكافي)، داعياً إلى الاعتدال.
- في مواجهة التطرّف الديني أو الإلحاد المعاصر، نحتاج إلى منهج الإمام (ع) الذي يجمع بين الالتزام بالدين وعدم التنفير منه.
- في العلاقات الأسرية، نتعلم منه (ع) أن الحكمة هي في الجمع بين الحقوق والرحمة، كما أوصى بالرفق بالزوجة والبرّ بالوالدين.
3.الحكمة السياسية.. مقاومة الظلم بالوعي لا بالعنف
رفض الإمام (ع) الانخراط في الصراعات المسلحة العبثية، لكنه لم يسكت عن الظلم، بل ربّى جيلاً واعياً قادراً على مواجهة الانحراف بالعلم.
- في زمن الثورات والاحتجاجات، نرى أن التغيير الحقيقي يأتي عبر التوعية الطويلة المدى، كما فعل الإمام (ع)، وليس بالعنف العشوائي.
- مواجهة الاستبداد الحديث تحتاج إلى حكمة الصمود كما صبر أهل البيت (ع)، دون التورط في ردود أفعال تُضيّع الحقوق.
الحكمة.. درعنا في عصر الفتن
لو اختصرنا إرث الإمام الباقر (ع) في كلمة، لكانت "الحكمة"، التي تجمع بين العلم النافع، والخلق الرفيع، والموقف الشجاع. في زمننا، حيث تُباع الحقائق رخيصة، وتُحرَّف المفاهيم، نحتاج إلى أن نكون تلامذة في مدرسته (ع).
فليكن شعارنا قول الإمام الباقر (ع): *" إذا أردت أن تعلم أن فيك خيرا، فانظر إلى قلبك فان كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير: والله يحبك، وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير: والله يبغضك، والمرء مع من أحب. "** (تحف العقول).
الحكمة ليست ترفاً فكرياً، بل ضرورة للنجاة. فلنقتدِ بإمام عرف كيف يبني الأمّة بعلمه وحلمه، فصنع من الأزمات مناراتِ هدى.
اضف تعليق